د.صالح بن عبدالله بن حميد
الحمد لله المتفرد بالبقاء، ذي العزة والكبرياء، كتب مقادير الخلائق وأقسامها، وقدَّر أمراضها وأسقامها، سبحانه وبحمده، له ما في السماوات وما في الأرض؛ ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى، رحمة من لدنه وفضلاً، وحكمة منه وعدلاً. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
ففي مطاوي أقدار الله من أحداث وأحوال يقف المسلم منها موقف التسليم والرضا بقضاء الله وقدره. وإن من الحق على العاقل اللبيب النظر والتفكر، والمحاسبة والتدبر، فكأس المنايا تَذَوُّقها حتمٌ على كل حي، فهل ينتظر الصحيح إلا السقم، والكبير إلا الهرم، والموجود إلا العدم؛ على هذا مضت الخلائق، وسارت الدنيا اجتماعاً وفرقة، محياً ومماتاً.. قال رب العزة والجلال: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ}، وقال سبحانه:{وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ . وقال جلَّ شأنه: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ .
ومن سنن الله وأقداره في خلقه قبضه العلماء، وهي من حِكم الله الجارية، وسننه الماضية، يقف معها العبد مطمئناً قائلاً: إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ، ومتفائلاً داعياً: «اللهم اجبرنا في مصيبتنا وأخلفنا خيراً منها». فرحم الله علماءنا، وأسكنهم فسيح الجنان وعاليها. فلا حرمنا أجرهم، ولا فتنا بعدهم، وغفر الله لنا ولهم.
وقبل أيامٍ فقدت بلادنا عموماً ومنطقة القصيم خصوصاً قامة من قاماتها، وعالماً من علمائها، ومربياً من كرام مربيها، ووجيهاً من مقدمي وجهائها، إنه شيخي وأستاذي العالم المربي الفاضل والمثقف النبيل الوجيه الشيخ محمد بن عثمان بن أحمد بن عثمان البشر - رحمه الله تعالى -، وذلك يوم الثلاثاء الموافق 24 - 7 -1439هـ، عن عمر يناهز السابعة والثمانين؛ فهو قد وُلد - رحمه الله - عام 1352هـ، وقد صُلي عليه عصر ذلك اليوم في جامع الإمام محمد بن عبدالوهاب في بريدة.
فشيخي الشيخ محمد هو سليل العلماء، ومقدم الأدباء، فجد أبيه هو المؤرخ عثمان بن عبدالله بن حمد بن بشر صاحب كتاب (عنوان المجد في تاريخ نجد)، وحسبك بالكتاب ومؤلفه من صيت وعلم وشمولية.
ووالده طالب علم معروف في أوساط تلاميذ آل سليم في القصيم، تولى القضاء والإرشاد في منطقته.
والأستاذ محمد يقول عنه معالي الشيخ محمد العبودي: إنه نبغ في صباه، وصار له عمل مميز وصيت حسن منذ فترة مبكرة.
وكان يطلب العلم على المشايخ ببلده في حلقات المساجد، ومنهم والدي - رحمه الله تعالى -، وكان أثيراً عنده جداً، يحبه ويقربه، وتفرس فيه الهمة العالية، والعقلية المتكاملة المنفتحة المتوازنة؛ فهو من عقلاء الرجال.
له اهتمام بارز في الأدب والصلة بالأدباء، وهواية القراءة، وقد قال الشيخ العبودي: «لقد عُرف بأنه أحد أدباء بريدة الشبان».
وكتابه «حب الحصيد» كتاب ضخم، يقع في مجلدين كبيرين، تتجاوز صفحاتهما 1680 صفحة.
وهذا الاسم المميز الذي يدل على دقة مؤلفه - رحمه الله - وسعة مداركه أراده مختصراً لما تختزن ذاكرته من علوم ومعارف وأحداث وسيرة ذاتية، فهو يقول: «وسميته (حب الحصيد) اقتباساً من كتاب الله؛ ولأن الحب هو ناتج الزرع، وثمرة الكد، وخلاصة الجهد». فهو ثمرة وخلاصة، وليس كل ما في جعبته - رحمه الله - وليته أفرغ كل ما فيها من علوم ومعارف وتجارب؛ فهو الرجل العاقل الأسوة المربي القدوة.
والحقيقة إن هذا الكتاب على الرغم من أنه خلاصة وثمرة إلا أنه يعد مرجعاً لتأريخ المنطقة، ومصدراً من مصادر المعرفة فيها.
كتاب يجمع بين التاريخ والأدب والاعتبار في أسلوب سهل ممتع، واسترسال غير متكلف.
والشيخ يعد من أهل الفضل والفضيلة، فقد كان مربياً إدارة وسلوكاً، عرفته في صغري، وقد كان لطيفاً رحيماً، صادقاً في قوله وفعله، وقد درج على ذلك في حياته. فقد تولى إدارة المدرسة الفيصلية الابتدائية في بريدة، ثم إدارة المتوسطة والثانوية، وكانت في مبنى واحد، وكان حازماً في إدارته، متطلعاً للنهوض بالعملية التعليمية، وهو ذو ثقافة عالية، وملكة راقية في الأدب والفكر، كان له صلة وثيقة بسماحة الوالد عبدالله بن حميد - رحمه الله - لما كان قاضياً في بريدة، وكان الشيخ محمد البشر من خاصة طلابه وجلسائه، وكان يقرأ على سماحة الوالد المطبوعات من الصحف والمجلات، والكتب الأدبية والشعرية، وغيرها من الكتب العلمية الثقافية، وكان سماحة الوالد مقرباً له، ومتفرساً في شخصية الشيخ محمد الوجاهة لما يحمله من التوازن العقلي والفكري، وحسن منطقه وحديثه، واستيعابه للأمور، ودقة تصورها وفهمه لها.
ولهذه الأبعاد في شخصية الشيخ محمد - رحمه الله - كان له الحضور في مجالس كبار رجالات القصيم من الأمراء والعلماء، فإن له المكانة المرموقة المقدرة لدى أمراء المنطقة ورجالاتها، وهو من الباذلين جاههم ونفعهم للناس؛ فهو لا ينفك عن ذلك قدر ما يستطيع؛ فهو كريم مضياف، قد أعد بيته الواسع لاستقبال من يدعوهم من الوجهاء والأعيان من أهل المنطقة والوافدين إليها، وكانت له عناية كبيرة في متابعة مشاريع مدينة بريدة وخدماتها، بل انطلق من النفع الفردي إلى المشاركة في الأعمال الخيرية المؤسسية؛ إذ أسهم في تأسيس وتطوير العمل الخيري في بريدة، وعلى رأس تلك المؤسسات ما سعى به من بذل نفسه ووقته وماله في تعليم القرآن الكريم؛ فهو من أوائل وطلائع المؤسسين لدور تحفيظ القرآن الكريم، فمن آخر أعماله افتتاح مبنى دار أم سلمة - رضي الله عنها - بجوار جامعه في حي السلام ببريدة، وهو - رحمه الله - عضو في عدد من المجالس والجمعيات الخيرية. وحدثني من حضر الافتتاح أنه بكى حين الافتتاح مبتهجاً بهذا، وحينما قال له بعض الحاضرين: إن تكلفة البناء عالية. قال: «لا يعلو ولا يغلو شيء على كتاب الله ومتعلمي كتاب الله؛ فلا تقل مثل هذا». فهو عضو في جمعية تحفيظ القرآن الكريم في منطقة القصيم، ونائب رئيس مجلس جمعية تحفيظ القرآن ببريدة، وأمين عام جمعية البر الخيرية ببريدة، وعضو لجنة أصدقاء المرضى ببريدة، وعضو لجنة أهالي بريدة.
وأذكر موقفين معه - رحمه الله - أحدهما قبل ما يزيد على ستين سنة، والآخر بعده بثلاث سنوات تقريباً.
أما الأول: فهو حينما كنت طالباً في السنة الثالثة الابتدائية في المدرسة الفيصلية في بريدة، وكان هو مديرها، كُلفت بافتتاح الإذاعة المدرسية بالقرآن الكريم، فقرأت آيات من سورة النمل، وفيها قوله تعالى: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ، فقرأتها بضم «الصمَّ»، فلما قابلني - رحمه الله - في فناء المدرسة قال لي: إنها بالفتح. ومع أنها ملاحظة عابرة لطفل في التاسعة من عمره، أو ما يقارب ذلك، ومع هذا لم أنسها إلى اليوم، كلما مررت بها في تلاوتي ذكرتُ هذا الشيخ المربي - رحمه الله -.
أما الموقف الثاني فهو انتقالي من المرحلة الابتدائية إلى المتوسطة. وقد كنت صغيراً، لا أعرف كيف يكون الانتقال، ومتى وأين.. فما كان منه إلا نقل الملف من المدرسة الابتدائية إلى المدرسة المتوسطة؛ لأنه قد أصبح مديراً لها. واللافت في هذا أن في بريدة خيارين: المدرسة المتوسطة أو المعهد العلمي. وفي المألوف أن المعهد العلمي يلتحق به أبناء المشايخ وطلبة العلم، ولكن هذا الذي حصل، ولعله كان لافتاً بعض الشيء في حينه، ولا أحسب أن الأستاذ محمد - رحمه الله - سيفعل ذلك من غير إحاطة الوالد - رحمه الله -. ولعل وجهة نظر الوالد - رحمه الله - أنه مطمئن لتحصيل ابنه في الجانب الشرعي؛ لأني ملازم لحلقاته - رحمه الله - في الجامع الكبير، وفي المكتبة العلمية، وكذلك حلقات الشيخ محمد الصالح المطوع، بل إني كنت أحفظ القرآن على الشيخ محمد الصالح المطوع - رحمه الله -، ولكن لم يكن حفظاً متقناً؛ لأني كنت صغيراً، والشيخ كغيره من مشايخ وقته لا يعتنون كثيراً بمتابعة الطالب في المراجعة والإتقان، بل يتركون ذلك لحرص الطالب نفسه أو عناية أهله، وقد كنت صغيراً فلم أتقنه الإتقان المطلوب حتى التحقت بجمعية تحفيظ القرآن في بريدة، ثم في مكة المكرمة.
ولكن شاء الله أن أعود إلى أحضان العلم الشرعي، فنعم الحضن، ونعم الحاضن.. فبعد أن درست سنة دراسية في الطب في بعثة خارجية عدت إلى مكة المكرمة لألتحق بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية، فلله الحمد على ما قدر ويسر.
فرحم الله الشيخ والأستاذ الجليل محمد بن عثمان البشر، وأسكنه فسيح الجنات، وجعله في عليين مع النبيين والصديقين والشهداء، وحَسُن أولئك رفيقاً. وأصلح الله عقبه وذريته؛ فقد خلَّف ذرية صالحة، وأبناء بررة، زادهم الله إحساناً وفضلاً وتوفيقاً.