د. محمد عبدالله العوين
لم نكن نعلم نحن أبناء ذلك الجيل الذي ظهر على الدنيا في قمة عنفوان تطلعه إلى الحياة بداية التسعينيات الهجرية من القرن الماضي أن ما كان يحدث من حراك ديني عنيف لم يكن وليد الصدفة؛ بل كان نتيجة عمل محكم من قيادات الإخوان المسلمين تحت ستار كثيف من الادعاءات تحجب الأهداف الكامنة في تنشئة جيل جديد يستطيع أن يقلب الحياة رأسا على عقب.
كان النقاش محتدما بين طلبة متفتحين ينظرون بإيجابية إلى الحياة وطلبة سرقت منهم كتب الفكر المتطرف وندواته التي كانت تقام في محافل متعددة بهجتهم ورؤيتهم الإيجابية للحياة وللناس.
كانت الوقفة الطويلة في نصف الساعة المخصصة للاستراحة بين المحاضرات عند باب الكلية أشبه بندوة ساخنة لا كراسي فيها ولا مايكروفونات وتنتهي بنتيجة لا غالب ولا مغلوب، والمكسب الوحيد للجماعة معرفة من هو اللين الذي لا بد من الحرص على متابعته لاستقطابه، كان عملهم أقرب إلى النشاط الحزبي من الدعوة الدينية، هكذا تصورت الأمر بعد سنوات من الوعي بطبيعة حركتهم.
بجانب باب الكلية والحوار فائر كان ثمة رائحة فائرة أخرى تهب من الرصيف المحاذي ؛ رائحة الخبز في قمة استوائه بعد أن تسحب طوابينه من الفرن الصباحي الساخن من مخابز العجاجي المجاورة لباب الكلية، لم تكن الرائحة وحدها هي ما يفتح الشهية لساندوتش الإفطار الذي أنسانا إياه الحوار الساخن؛ فقد كان ثمة ما يغري أيضا بالوقوف طويلا حتى لو زحفت عقارب الساعة إلى ما بعد العاشرة؛ فقد كانت أسراب القطا الجميلة تنسل بخفة ورشاقة وهدوء وعطر فواح من مداخل العمارات المجاورة ويدور في الخيال حينها حوار من نوع آخر لا يلتقي مع نقاط حوار أفراد الجماعة عن المجتمع الإسلامي وعودة الوعي ويقظة الأمة ومظاهر الفساد المستشرية كما يزعمون!
وبين الفينة والفينة نلتصق بحائط الكلية قريبا من الباب تاركين الرصيف احتراما لمرور أساتذتنا الأجلاء داخلين أو خارجين؛ فهذا بدوي طبانة أستاذ البلاغة بقامته الضخمة المديدة، وهذا عبد الخالق عظيمة يتوكأ على عصا ولا يكاد يسمع شيئا مما حوله لصمم فيه، وهذا محمد بن سعد بن حسين مرتديا مشلحا أسود جديدا وشماغا معتنى بكيه وتزين وجهه لحية مهذبة قصيرة وقد كان قدم لتوه متخرجا من مصر، وهذا عبد الرحمن رأفت الباشا يسير في إهاب من التواضع واللطف، وهذا عبد القدوس أبو صالح لا يخفي شيئا غير قليل من الأنفة والاعتزاز بالذات، وهذا محمد محمد حسين يمر دون أن يلتفت أو يعلم منهم الواقفون، وهذا سيد خليل أستاذ النحو الفكه الذي لا يمل درسه يبتسم لكل من يلاقيه بكل تهذيب، وهذا درويش الجندي لا يمكن أن نراه إلا حاملا حقيبته المكتنزة وقد بدأت آثار السنين تعمل خطوطها البالغة في وجهه.
يمر الزمن وتمر قوافل الذكريات وأنت واقف بسيارتك أمام باب كليتك في شارع الوزير ولا من مسامر أو نديم، لقد رحل القوم واندثرت كل الحكايات واختفت أسراب القطا وانقطعت رائحة الخبز عن ذلك الرصيف المتوهج الذي كان.. يتبع