محمد السحيمي
علم التنمية أو دراسات التنمية هو أحد فروع العلوم الاجتماعية، يركز على كيفية تنمية الدول وتطويرها. بعبارة أخرى، دراسة أسباب التخلف وعوائق التنمية وكيفية معالجتها. انتشر هذا الحقل بشكل مكثف في الدول المتقدمة والجامعات العالمية منذ أواخر القرن الماضي، حيث نجد -على سبيل المثال- أن جامعة مانشستر وحدها في شمال بريطانيا يوجد فيها أكثر من 20 برنامج ماجستير في مجال التنمية ناهيك عن برامج البكالوريوس والدكتوراه والبرامج الأخرى المقدمة في هذا المجال. هذا مجرد مثال بسيط عن اهتمام الدول المتقدمة بهذا الحقل الأكاديمي رغم التقدم الموجود في تلك الدول، فهم ليسوا بحاجة لدراسة التنمية بقدر حاجة دول العالم الثالث لدراسة هذا المجال والاستفادة منه. في المقابل، فإن العالم الثالث وخصوصًا العالم العربي -على سبيل المثال- لا يوجد فيه إلا برنامجان فقط، الأول لمرحلة البكالوريوس في جامعة فيلادلفيا في الأردن وهي جامعة غير حكومية، وبرنامج آخر مقدم من الجامعة الأردنية وهو برنامج الماجستير في التنمية المستدامة، وهذا البرنامج الذي أنشئ سنة 2014م يركز على جانب واحد بسيط من جوانب التنمية حيث يركز فقط على التنمية المستدامة ومشكلة ندرة المياه التي تواجه الأردن، وهذا مختلف تمامًا عن دراسات التنمية التي تتناول معضلة التنمية وأسبابها وكيفية معالجتها. أما باقي الجامعات العربية من الخليج إلى المحيط فلا يوجد فيها أي برنامج أكاديمي في هذا المجال، لا من قريب ولا من بعيد، ناهيك عن إنشاء جامعة أو كلية أو حتى قسم علمي متخصص في دراسات التنمية كما هو معمول به في الدول الأخرى.
وحتى تكتمل الصورة عن وضع دراسات التنمية في العالم العربي إليكم هذا المثال البسيط، حيث يوجد هناك مركز متخصص في أبحاث التنمية تابع لأحد الجامعات العربية، موقعهم الرسمي على شبكة الإنترنت يعطي انطباعًا أن هذا المركز سوف ينافس الكثير من المراكز والمعاهد المتخصصة في الدول الأخرى. ولكن على أرض الواقع فإن هذا المعهد لا يقدم حتى الآن إلا برنامجاً واحداً فقط يمنح بعدها الطالب درجة الدبلوم في السكرتارية الطبية. ولا أدرى حتى الآن ما علاقة هذا الدبلوم بمركز أبحاث التنمية؟! وعند الاستفسار عن سبب تدريس مثل هذا الدبلوم في مركز متخصص في أبحاث التنمية؛ كان الجواب أن السكرتارية الطبية هي (اللي ماشيه الآن في سوق العمل)!! وسوف يزيد استغرابك عندما تقرأ الأهداف المنشورة في الموقع الرسمي لهذا المركز والتي يأتي في مقدمتها أن المركز يهدف إلى الاستفادة من الخبرات العلمية لأعضاء هيئة التدريس للمساهمة في تحريك عجلة التنمية في الدولة، وبالنهاية يتمخض المركز وينجب دبلوم سكرتارية طبية!!
مركز أبحاث التنمية لا يُلام على هذا الوضع لأنه مجرد جزء من منظومة كاملة تحتاج إلى إعادة هيكلة وتنظيم، وتحتاج أيضًا إلى حلول جذرية تجتث الوضع القائم من الأساس وتعيد بناء المنظومة التعليمية وكل ما يتصل بها من هياكل ومناهج وطرق تدريس وكذلك الكوادر الأكاديمية، وقبل هذا كله نوعية البرامج الأكاديمية ومحتوياتها وكيفية تصميمها لأن البرامج الأكاديمية الموجودة حاليًا ما هي إلا مخرجات مشوهة لمدخلات خاطئة من الأساس لبنية هذا النظام. وتشوهات النظام التعليمي لا يتسع المقال لذكرها الآن حتى لا نخرج عن موضوعنا الأساس وهو التنمية ودراسات التنمية في العالم العربي، ولكن قبل العودة إلى صلب الموضوع يجب التنويه إلى أن (تطوير التعليم بحاجة إلى تطوير)، ولهذا السبب ينطبق على كل المحاولات السابقة لتطوير التعليم المثل الشهير (صبها واحقنها). وبخصوص التنمية في العالم الثالث وعلى الأخص العالم العربي فهي بحاجة إلى إنشاء برامج أكاديمية متخصصة تخرج الكوادر المدربة وتكسبهم المهارات الأساسية والمعرفية للنهوض في عجلة التنمية. لأن التنمية في العالم العربي تواجه الكثير من التحديات، ويجب أن يكون الاستعداد على قدر هذه التحديات، وأبسط مراحل الاستعداد هو تكثيف الجهود الأكاديمية والتعليمية، لأن العلم والمعرفة هما السلاح الوحيد لمواجهة هذه التحديات، ومن دون هذا السلاح نحن نعالج أخطاء التنمية بأخطاء التعليم. التنمية في العالم العربي بحاجة أيضًا إلى تسليط الضوء من خلال إقامة المؤتمرات المتخصصة في هذا المجال والاستفادة من التجارب والأفكار التي تقدم في مثل هذه المؤتمرات، حيث من المستغرب إقامة المؤتمرات الدعائية عن تقنية النانو والخلايا الجذعية والمؤتمرات الكونفشيوسية ونحن لا يوجد لدينا مؤتمر واحد مهم عن التنمية وباسم التنمية وكيفية معالجة عوائق التنمية. لذلك يمكن القول إن القفز في السماء نحو الترف العلمي هو (فشخرة) غير مبررة في ظل حاجتنا إلى تعلم أساسيات المعرفة وفي مقدمتها أساسيات التنمية. ولا يطالب عاقل بإلغاء تلك المؤتمرات ولكن يجب أن لا ننسى أننا ما زلنا دولاً نامية وبحاجة إلى مؤتمر سنوي باسم التنمية جنبًا إلى جنب مع مؤتمراتنا العلمية المتعددة. مثل هذه البرامج الأكاديمية والمؤتمرات العلمية لم تمنع الدول المتقدمة من الاهتمام في مجال التنمية، رغم التقدم الموجود في تلك الدول، ونحن أولى بهذا الاهتمام.
في الحقيقة فإن عدم الاهتمام في دراسات التنمية في العالم العربي يثبت صحة البيت الشهير للشاعر المتنبي -رحمه الله- حين قال عن أمة العرب: «يا أمة ضحكت من جهلها الأمم». ماذا سيقول هذا المتنبي لو عاصر قطاع التعليم اليوم وهو يمر في أصعب مراحله التاريخية؟ وعدم الاهتمام في دراسات التنمية هو مجرد مثال بسيط ودليل واضح على أن التعليم في وادٍ والتنمية في وادٍ آخر. ولهذا السبب توصل غازي القصيبي -رحمه الله- في نهاية تجربته الثرية في دواليب الدولة والإدارة إلى هذه النتيجة الحتمية حين قال: «الطريق إلى التنمية يمر أولاً بالتعليم، وثانياً بالتعليم، وثالثاً بالتعليم».
عضو هيئة تدريس في قسم العلوم السياسية - جامعة الملك عبدالعزيز - جدة