عبدالوهاب الفايز
قضايا الصحة العامة سوف تبقى من الأمور الحيوية التي تواجه الناس وتشكل تحديا للخدمات الصحية، وأهم الجوانب الحساسة للصحة العامة ما يتعلق بالأمراض المعدية أو الممارسات والاعتقادات الصحية السيئة، وآخرها لدينا انتشار (مرض الجرب)، وبروز ظاهرة (بيع القمل) بين النساء بزعم تطويل الشعر!، ومثل هذه الحالات لانتشار الأمراض المعدية، أو لشيوع الاعتقادات السيئة.. هذه تنشأ وتتطور بفعل عامل المكان الرئيسي مثل (الأحياء العشوائية)، التي تولدها البيئة التي ينشأ ويتفاعل فيها الإنسان.
ما يهمنا هنا هو ما يخص جانب المكان، فالعلاقة بين الإنسان والمكان قوية جدا، والإنسان ابن بيئته التي ينشأ فيها، فهي التي تؤثر بشكل كبير على عاداته الصحية وتفاعلاته الاجتماعية، وتؤسس قواعد السلوك ومرجعياته. وربما هذا الذي يجعلنا نقف عند الحالات المرضية أو السلوكية التي يرى المختصون بإدارة وتصميم حواضر المدن أن المكان عنصر رئيسي في احتضانها ونشرها. وقد شهدنا مؤخرا توسع حالات مرض الجرب التي بدأت في مكة، وفِي مكة أكثر من 60 حيّا عشوائيا، ومنذ سنوات والحكومة تحاول جاهدة معالجة أوضاع هذه الأحياء السكنية حتى تنمي العاصمة المقدسة وتجعلها من حواضر المدن التي تحضى بالتطوير المستمر.
في العشر سنوات الماضية شهدت مكة إقامة المئات من المشاريع التي تدعم البنية الأساسية وتوسع قاعدة الخدمات، وشكل مشروع توسعة الحرم الشريف قاطرة المشاريع العملاقة في مكة. ولكن تبقى مشكلة الأحياء العشوائية المهمة الأصعب للحكومة، وهي التحدي الرئيس الذي لن يحل بالمال فقط، بل يتطلب منظومة من الحلول الأساسية المستدامة التي تغير في اقتصاديات العاصمة المقدسة بحيث تكون الحياة في المدينة وحواضرها بيئة مستقرة على ثوابت التنمية المستدامة.
المفاهيم الحديثة المتطورة التي تم تجريبها في اقتصاديات المدن هي ما نحتاجه لمواجهة أعباء إدارة وتشغيل مدننا، فالأنظمة البلدية الحاليّة عبء على المدن، وهي التي تجعلنا نرث الحالة الصعبة لتكلفة الإدارة والتشغيل وضعف الخدمات الإنسانية التي يحتاجها سكان المدن مثل الترفيه النوعي المتيسر وغير المكلف الذي تقدمه المدينة لسكانها، والذي يساهم في تطور الرضى الوطني.
طبعا لن نواجه المستقبل وبعض مدننا تعاني من تبعات الأحياء العشوائية، فهذه الأحياء سوف تبقى مشكلة رئيسية تواجه مدننا إذا لم نتخذ خطوات حاسمة للتخلص منها. كلما طفح على السطح مشكلة كبرى صحية (مثل انتشار الجرب)، أو أمنية، أو كوارث سيول تداعينا إلى اقتراح واجتراح الحلول، وإدارة الأزمات تقدم لنا الحلول الوقتية، وبعد ذلك ننسى المشكلة الكبرى.
هنا يجب أن نؤكد على أن إمارة منطقة مكة المكرمة كانت واعية ومدركة لخطورة الأحياء العشوائية، وسمو الأمير خالد الفيصل وضع مشكلة الأحياء العشوائية في قائمة أولوياته واهتماماته، ففي مكة وجدة والطائف (150) حيّا عشوائيا، وفِي مكة وحدها تمثل العشوائيات 25% من المساحة العمرانية، ولكم أن تتصوروا حجم التحدي!. في مكة بدأ فعلا علاج بعض الأحياء، والأمير خالد الفيصل وفريقه دائما يعبرون عن عدم رضاهم بأوضاع هذه الأحياء ومدركين لمخاطرها، ولكن هذه المشكلة التي تجمعت عبر عشرات السنين لا يمكن حلها في بضع سنين، ولا يمكن أن يتصدى لها رجل واحد حتى لو كان من أولي الهمة والعزم. مشكلة الأحياء العشوائية تحتاج جهد الحكومة كلها حتى نتخلص منها بالطرق الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية المناسبة والضرورية.
حواضر المدن الكبرى سوف تبقى مناطق جاذبة ومشجعة لتوسع ما هو قائم من الأحياء العشوائية، وممكنة لنمو أحياء جديدة، ولهذا سببان. الأول يعود لمفهومنا لاقتصاديات المدن، فتكلفة المعيشة الموحدة تقريبا، وطريقة اعتمادات النفقات الحكومية التي لا تأخذ بالأبعاد الاقتصادية الاجتماعية المحلية، مع غياب نظام ضريبي متقدم في آلياته وأدبياته يأخذ بالاعتبار والأبعاد والاحتياجات التنموية لكل بيئة عمرانية، هذا العامل أحد حوافز نمو المدن الكبرى (المدن المليونية)، وبالتالي ازدهار الأحياء العشوائية!
هناك سبب ثان مرتبط بالأول ومترتب عليه، وهو استمرار زحف سكان الأرياف والمدن الصغيرة إلى المدن الكبرى، وهذه تقريبا ظاهرة عالمية ولها تبعاتها الأمنية والاجتماعية والاقتصادية، وهذا الذي نخشى ونتخوف أن نواجهه إذا ظللنا غير مسلحين بالأدوات الضرورية لإدارة البيئة الحضرية للمدن ومواجهة تحدياتها.
المؤسف أن الذي يرى الأحياء العشوائية سوف يرى جانبا سلبيا للحالة الحضارية للمملكة، وهذا يعزز المطالب بضرورة وضع حلول جذرية لهذه الأحياء، أو سوف نظل نستقبل ما تصدره إلينا من أمراض معدية، مع مخاطرها على التنشئة الاجتماعية، واحتضانها للفارين من العدالة، أو المخالفين لنظام الإقامة والعمل، مع بقائها كحاله سلبية لواقع مدننا الكبرى، تزعجنا وتحرجنا مع العالم!