د. حسن بن فهد الهويمل
تناقل المتذمرون لقطات من مقابلة تلفازية، أجريت مع سوري الأصل، كندي الجنسية [خالص جلبي]، وأوسعوه ذماً، وتجريحاً، يليق بمثله، لأنه بِسِنَّه، وعلمه، ونكرانه للجميل، وتنكره لمبادئه الأخلاقية المُدَّعاة، لم يكف الغيبة عن نفسه.
المذكور عاش في المملكة ثلاثة عقود، منها عقدان في «بريدة» على ما أذكر. كانت فيما أظن أجمل أيام حياته، لأنه تمنى أن يموت في [النماص]، ويُدْفن في ثراها.
كنت، ولفيفٌ من لداتي على صلة وثيقة به، يزورني في بيتي، وألقاه عند الأصدقاء الذين يدعونه، ويكرمونه، ويستمعون إليه.
ولأننا أمرنا بالعدل مع الخصم، فإنني لا أجد غضاضة من إبداء إعجابي بغزارة علمه، وشمولية ثقافته، ودقة متابعته، وسعة إطلاعه، وجده في التحصيل المعرفي، وكثرة استعارته للكتب مني، ومن غيري، وتأثيره على كثير من أبناء [بريدة]، الذين استهوتهم طلاقة لسانه، وقوة عارضته، وبراعة عرضه.
كان الأستاذ [إبراهيم البليهي] من أكثر الناس احتفاءً به، وتبادلاً للكتب معه.
كان بحق رجلاً اجتماعياً، لايمر يومٌ إلا وقد استضافه أحد منا، وكنت أحضر الكثير من هذه اللقاءات.
تلك بعض محامده، أما مساوئه، فقد تكشفت عبر مقابلة تلفازية. ويكفيه سوءاً أنه تنكر لسنوات سمان، تجاوزت العقدين، قضاها معزّزاً مكرّماً، تصل إليه سيارات الداعين في بيته، كي يقضي في بيوتات النخب السهرات المتواصلة. يأكل من أطايب الأطعمة، ويتداول شتى الأحاديث، مع شباب مبهورين، وعلماء متوازنين، وخصوم عادلين. يتفسحون له في مجالس العلم، ويحاولون حمله على الدليل، وصرفه عن التأويل الباطل، والتحريف المتعمد.
وخلال إقامته في [القصيم] لم يبدر منه نقد، ولا تذمر. بل لا يفتأ يمدح البلاد وأهلها، ويتغنى بكرمهم، ويتوجع من حياة التشرّد التي قضاها بعيداً عن تلك الأجواء.
كان هذا لسان حاله، ومقاله، وكنا نحمله على الصدق، ونظن به خيراً، ونثني على مشاعره الطيبة.
في عمله الرسمي كان من التنابلة، وكان المسؤول يغض الطرف عن تقصيره، بل قد يعتمد على زملائه، ليوفر له الجهد، والوقت، لملء هذه الفراغات المعرفية، ثم إنه يتقن فن المجاملة، والتودد.
مجتمع النخبة في [بريدة] يجد فيه مادة معرفية جديدة، ومن ثم يحملون المسؤولين على غض الطرف عنه، حتى داهمته الشيخوخة، والكسل، والتخمة، فأصبح عبئاً على الجميع.
ماكانت طِيْبتنا لتكتشف هذه الرداءة في الأخلاق، والنكران للجميل، وإنما تطوع هو بكشفها حين وصفنا بـ[انعدام القيم]، و[وفرة المال]. والحق أنه خرج بالمال، وخَسِرَ القيم.
[بريدة] بالذات جُبِلَ أهلُها على الاحتفاء بالوافد، منذ أن شكل أميرها السلفي [حجيلان بن حمد] نسقها الثقافي، إذ لم تَقُمْ على القبلية، ولا على المذهبية، ولا على الأسرية.
لقد فتحها لكل عالم، وعامل، بل بادر بالدعم، والعون. ولهذا أصبحت قابلة للتعددية، وملتقى لمختلف الأطياف. تلك السمة قائمة بأهلها. ووجود شخص مثله على جانب من العلم الشرعي، والفلسفة الحديثة، تتيح له فرصة الإكثار من اللقاءات.
لقد استقبلت في بيتي، وفي مكتبتي مختلف الأطياف، أذكر منهم [سعيد حوى] وآخرين، لهم همومهم، وانتماءاتهم، ونوازعهم الدينية، والفكرية، والسياسية.
هذه الأفكار التطمت في بيتي، وفي مكتبتي، ولم تزحزح قدمي قيد أنملة عن سلفية، وسطية، واعية. {وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا}.
كان [خالص جلبي] بخطابه الحجاجي، خطاب الزعزعة، والتشكيك، والمراوغة، والاستدراج في مقدمة من يُدْعون، ويُحْتَفى بهم.
في أخريات أيامه أصيب بجنون العظمة على شاكلة [المتنبي] حتى مَلَّتْه المجالس، ولفظته الألسن، ودلت على شطحاته، ومضمراته فلتات لسانه. ولكنه مرتزق، نفعي، ذكي. يعرف كيف يتخلص من المواجهة. فكان مجاملاً إلى حد الضَّعَة، يقول مالا يعتقد، ويعتقد ما لا يقول.
ومع طول السنين مل منه الناس، وأصبح يكرر نفسه، ولربما كان لامتلاء جيبه، وبطنه أثرٌ على تنكره للجميل، وحرصه على مغادرة المملكة.
فالزمن قد تغير، و[العيال كبرت]، والمواطن السعودي تبدت له الأمور، وأصبح قادراً على كشف السوءات، والتعرّف على أصحاب النوايا السيئة، والوصوليين الذين يقلبون لهم الأمور.
لقد استهلك كل أقنعته، وسالت كل أصباغه، بعدما صنعت منه أجواء البلاد مفكراًعلى مستوى الوطن العربي.
فما كان ضرك، وقد ملأت جيبك من خيرات السعودية، وصَنَعْتَ نَفْسَك في إعلامها، وسائر مؤسساتها الثقافية، لو مننت، وقلت كلاماً جميلاً، يليق بسنك، وعلمك، وثقافتك، ويمكن لك في مقامك الجديد أَوْصَمَتَّ:
[وإَنَّ سََفَاهَ الشَّيخِ لاحِلْمَ بَعْدَهُ … وإنَّ الفَتَى بَعْدَ السَّفَاهَةِ يَحْلُمُ]
إن بإمكانك الثناء على الدولة المضيفة، دون المساس بدولة وفرت لك ما توفره لأبنائها. ولكن النوايا مطايا. حماقتك نعمة أنعم الله بها علينا، لكي نعيد قراءاتك، وقراءة أمثالك، ونضعك في حجمك الطبيعي.
لو كان عاقلاً لكان في غِنىً عن هذا النكران للجميل في خريف العمر، ولو كان سليم النوايا لكان كما كان عندنا شاكراً ذاكراً للجميل. ولو كان على خلق كريم لعف عن خاتمة السوء.
رجل في الثمانين من عمره، ليس بحاجة إلى بيع كرامته، وتخريب سمعته.
لقد خسرت أصدقاءك في السعودية، وهم كثيرون، وأعطيت صورة سيئة عن قومك المقيمين فيها، قد يطالهم سوء الظن، ثم لا يجدون ما وجدته من حفاوة، وإكرام.
يا رجل عشت في [بريدة] أكثر من عشرين سنة، وأنت كما تدعي سعيد فيها.
لو لم يطب لك المقام، لكان بإمكانك الذهاب إلى إحدى دول الخليج، التي قد تعطيك أكثر مما تعطيك السعودية.
لقد قَدِمْت أنت بطوعك، واختيارك، وهدمت سمعة كان بالإمكان المحافظة عليها وتنميتها.
[خالص جلبي] لم يكن وحده الذي لعب لعبته القذرة، ولم يكن وحده الذي أساء للمملكة، وأهلها بعد أن علمته الرماية، ونظم القوافي، فكان الرامي، والهاجي لها:- {حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم}:- [وقَدِيْماً كانَ في النَّاسِ الحَسَدُ].
لو ذَمَّنا من خلال رؤيتنا الدينية، أو الفكرية، وفَنَّدَ اختلافنا مع خطابه، لما كان في الأمر ما يزعج. مع أن ضيق العطن بالاختلاف مؤشر فَشَلٍ في إدارته.
كم من العلماء، والأدباء، والشعراء، والقصاص من نفشوا في مَراعينا، ثم عقروا إبِلِنَا، وبقروا بطون أغنامنا. إنه قدر الطيبين، ولكن {الْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}.
إن إقامتك على الضيم ثلاثة عقود دليل ضعة، وانعدام إحساس بالكرامة:
[ولاَ يُقِيمُ عَلَى ضَيْمٍ يُرَادُ بِهِ
إلاّ الأَذَلاّنِ غَيْرُ الحَيِّ والوَتَدُ]
- وهَلْ تَرْخُصُ عليك كرامتك في سبيل ملءِ البطن، والجيب:-
[وَفِي الأَرْضِ مَنْأى لِلْكَرِيْمِ عَنِ الأَذَى
وَفِيْها لِمَن خَافَ القِلَى مُتَعَزَّلُ]
{أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا}.
- وكيف ترضى لنفسك، وأنت العالم، المفكر، المثقف هذه المهانة الممتدة الأكثر من ثلاثين سنة. أنت لست عابر سبيل، تمر بالمملكة بحيث تحتمل الأذى مدة العبور، أنت قصدت الإقامة، والارتزاق، وطاب لك المقام.