د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
قتل الأسد ما يقارب نصف مليون سوري وهجر 14 مليوناً منهم. وليس للأسد أية شرعية في سوريا عدا انتخابات مزيفة، على شكل استفتاء تم التصويت له فيه بشكل متوقع ولم يكن له أي خصم في الانتخابات. وهذه سمة غالبة لكافة الانتخابات العربية، وانتخابات العالم الثالث بشكل عام. وقد ثار معظم الشعب السوري بشكل طبيعي على الطغيان المتوارث من الأب للابن، فالمعيشة الضنكة في سوريا الأسد تجاوزت طاقة الشعب. ونظرًا لاتساع نطاق الثورة السورية لتشمل غالبية الشعب السوري بدأت التدخلات الأجنبية لدعهما واشترطت كل دولة أسساً معينة للدعم، وكالعادة لعب المال برؤوس الرجال مما أدى إلى تشرذم مؤسف للثورة السورية، وكان هذا بمثابة الخطأ القاتل لهذه الثورة المشروعة على حكم الأقلية الفاسدة. انحرفت الثورة ودلفت في مسارٍ سلبي اختلطت فيه الأمور على الداعمين قبل المناؤين.
فُرّغت سوريا تقريبًا من سكانها السنة بتوصيةٍ وتدخل من شيطان الولي الفقيه ومباركةٍ من النظام لتتغير التركيبة الديمغرافية بإحلال مرتزقة شيعة مكان السنة الذي هجروا قراهم ومدنهم للخارج حفاظًا على أرواحهم وأرواح أسرهم أحيانًا وبحثًا عن عيش كريم خارج سيطرة هذا النظام المستبد أحيانًا أخرى، فالمعادلة كانت الرحيل أو الموت. فشلت إيران أيضًا في السيطرة على الأوضاع فتم بيع البلاد بكامل مقدراتها ومواقعها الجغرافية لروسيا التي كانت تبحث بشتى السبل عن نصر تستعيد به هيبتها وكرامتها، وسال لعابها لنفط وغاز السواحل السورية.
لم تتوقف المجازر تحت السيطرة الروسية بل توسع نطاقها، فدمرت بشكلٍ شبه كاملٍ كثير من المدن السورية في استعراض رخيص للقوة العسكرية، واستنفذت روسيا كل حقدها التاريخي على المسلمين السنة في سوريا، حقدًا اجترته لعقود إثر هزيمتها في أفغانستان، وكذلك خسائرها في الشيشان. فبوتين، الديكتاتور الحاكم بأمره في روسيا، يبرز نفسه بمظهر القومي القوي الذي يعيد لروسيا وهجها وينتقم لتاريخها، ومن سوء الطالع التاريخي كانت سوريا العربية البقعة المهيئة لممارسة هذا الجنون.
التقت في سوريا أغلب التحالفات الشكيزوفرينية، فتركيا تحالفت مع إيران وروسيا، وهما أعداء تاريخيين لها. وقد تبادلت هذه الدول تهديدات بالحرب أشهر قليلة فقط قبيل إعلان التحاف بينهم. وتحول تضارب الإيديولجيات التاريخي الممتد لقرون في أشهر لتحالف مصالح جمع الشامي على الحمصي كما يقول المثل السوري. وإيران، التي تعتمد حكومتها على ديكتاتورية ذات طابع ديني إسلامي، تحالفت مع روسيا ذات الطابع القومي المسيحي!! فالمصالح وليست المثاليات هي ما تحكم العلاقات السياسية. فترويض الأكراد هو الجامع الوحيد للتقارب الإيراني الأردوقاني لا سيما وأن أمريكا اقتنعت بأن مراهنتها على دولة كردستان الكبرى ستكون مكلفة مقارنة بالعائد الإستراتيجي والاقتصادي المرجو منها، فهي في أفضل حال ستكون جزيرة محاصرة من هذه القوى، فكان لا بد من مراجعة الحسابات والانسحاب التدريجي من سوريا التي تحولت إلى بحر رمال متحرك قد تغرق فيه روسيا. وراهنت دول المنطقة على التناقضات الإيديولجية بين روسيا وإيران، لكن ذلك تأخر كثيرًا، وكلفة الوقوف موقف المتفرج السياسية والإعلامية كبيرة جدًا لدولة تريد إقناع العالم بأنها القوة الوحيدة في العالم.
ليس هناك فرق كبير بين قتل الأطفال والنساء والشيوخ بهدم بيوتهم على رؤوسهم، أو حرقهم بالأسلحة الفوسفاتية، أو بالنابالم، أو بالبراميل المتفجرة المملوءة بالـ»تي أن تي»، وبين قتلهم بالأسلحة الكيماوية. والأسد استخدم السلاح الكيماوي أكثر من خمسين مرة، فما الذي اختلف هذه المرة؟.. الذي اختلف هذه المرة هو أن الجو خلا لبوتين وإيران فأخذتا تبيضان في سوريا وتصفران بلا حسيب أو رقيب، الأولى بالتوسع في القواعد، والثانية بالاحتلال الديمغرافي، وظهرت أمريكا والنيتو بمظهر العاجز حتى أن تركيا وهي عضو فيه وجدت مصلحتها في التحالف مع الفاعلين الجديدين، لا سيما وأنهما سمحا لها بتصفية حسابتها مع الأكراد في عفرين.
وصلت عربدة بوتين لعقر الغرب بالاغتيال السافر لسيرجي سكربيل وأبنته في قلب لندن وبسلاح كيماوي. وسكربيل مواطن بريطاني يقيم في أرض بريطانية. فحدود العربدة السياسية والتهديد العسكري اختلطت على بوتين لأن أمريكا ظهرت بمظهر العاجز في أكثر المناطق حساسية في العالم، فكان لا بد من تحرك ما يحفظ ما الوجه ويرسل رسالة لبوتين. فهذه الضربات، بعضها لمواقع سبق تدميرها، لا قيمة إستراتيجية لها إلا في كونها رسالة سياسية لبوتين بأن الغرب سيتحرك إذا وصلت اليد للحلق، ورسالة للحلفاء والأعداء بأن أمريكا وحلفاءها قادرون على التحرك العسكري متى ما أرادوا وأينما أرادوا. أما بالنسبة لجمهر العرب فهي قليل متأخر كما يقول المثل الإنجليزي.