عبد الرحمن بن محمد السدحان
* سألني صديقٌ أعتز برأيه:
أراك تلتزمُ الصمتَ في بعض اللقاءات التي تجمعنا، فلا تشترك في حوار ولا تعلّق على مُحاوِر. وقد حاولتُ تأويلَ ذلك أكثر من مرة، فلم أفزْ بشيء، ولذا، قرّرتُ اليوم أن أقْرعَ جدار صمتك تَطفُّلاً عسى أن أفوز بموقف يطفئ غَليلَ السؤال في خاطري!
***
* وقد رسم السؤالُ المفاجئُ ابتسامةً على محيّايَ هي مزيجٌ من الشكر للسائل والإعجَابِ بسؤاله. قلتُ: صَمتي الذي تتحدث عنه أيها العزيز أمرٌ لا أنكرُه ولا ألومُ أحداً يسألُني عن سبَبه، أو يعاتبني بسببه، وأشكر لك مبادرتَك بالسؤال عنه، لأنني وصلت إلى مرحلة تكادُ تدنُو من عتبة سؤالك، بل إنني بتُّ أخشَى أن يُسِيءَ بعضُ الناس فهمَ هذا الصمت، وأن يحمِّلوا صاحبَه ما لا يَحتَمِل، غموضاً يَئُولُ إلى سُوءِ ظن!
***
* وما دمتَ قد تكرَّمتَ بطرح هذا السؤال عليَّ مشكُوراً، فسأرد عليه رداً أرجو أن يُطفئَ شرارةَ السؤال في خاطري، وفي الوقت ذاته، يعينني على تلمُّس درب الخلاص من تساؤل الناس، بكل ما يحمله ذلك من مرارة الشكِّ، وشُبهة التأويل!
***
* دعني أيها العزيز ندخل روض اليقين بالرد على سؤالك رداً تحفزني إليه الرغبة في الخروج من شراك السؤال، ومحنة التأويل!
بدأَ الصمتُ عندي (عادةً) في صدر طفولتي، وخاصة حين أحضرُ مجالسَ الرجال مع والدي رحمه الله، أو جدي لوالدتي رحمهما الله، فأمسكُ عن الكلام عَمْداً خشية أن آتيَ خطأً يُؤهّلني للعتَاب أو التأنيب، وتعلَّمتُ من خلال هذا الموقف أن الصمت في مثل هذا الحال، مِئْزرُ رحمةٍ من ألسنة الناس!
***
* كنت في صغري آخذ مكاني في مجالس الرجال وحيداً أو مع إخوة لي أو رفاق، فلا نَنْبس ببنت شفة، وكأنّ على رؤوسنا طيراً، فإذا بَدَا لأحدنا الرغبةُ الملحّةُ في الحديث، تبادلُه مع جاره من الأطفال همساً كهمس العشاق، وكان كل منا يُوجسُ خيفةً أن يتخطَّفَه بَصَرُ أحد الحاضرين، فيُسمعه ما لا يرضيه، ليلوُذَ هو بالصمت مرة أخرى!
***
* هكذا كان حالي.. حتى لقد حاق في نفسي أنني إن استسلمتُ لهذا الهاجس، فقد أفقد الرغبة في الكلام مع قريب أو غريب، وأجد عندئذ في حضن الصمت حصانة من ملامة العتب أو مرارة السؤال!
***
* وأذكر مرة أن سألت مدرساً وافداً في المرحلة المتوسطة عن موضوع ذي صلة بمادته، ولأمر ما في نفس ذلك المدرس، أو لعدم التوفيق في صياغة السؤال فقد ردّ عليّ هو رداً قاسياً بما أكره، فَعدتُ إلى حوزة الصمت أياماً!
***
* وبعد، ما العبرة في هذا الحديث؟! قد يسأل سائل، فأقول: عدة أمور ينكرها الالتزام بالصمت أو ضده، ألخصها في السطور التالية،
أولاً: أن الصمت (فضيلة) حين يكون وسيلة للإمساك عن كلام مرسل يضر ولا ينفع!
ثانياً: هو فضيلة حين يكون وسيلة حسنة للكف عن الخوض في أعراض الناس بالباطل!
ثالثاً: وهو فضيلة تُبتغى ليس امتناعاً عن النطق فحسب، ولكن حين لا يكون للكلام جدْوى ولا نفع!
رابعاً: وهو (لغة) لا يدرك فهمَها سوى العقلاء من الناس حين يكون (وسيلة) للتعبير عن موقف لا تُدركُه (حيلة) الكلام! وهو في حال كهذا أبلغ من كل كلام!
* وأخيراً: أود أن أذكّر الآباء والأمهات والمربّين ألا (يسرفوا) في ردع أبنائهم وبناتهم عن الكلام، تحت مظلة (التأديب) فقد يخشى أن يستنتج أحدهم يوماً أن (الكلام) عورة، لمجرد أنه كلام!
علموهم متى يكون الصمت فضيلة، فيصمتوا، ومتى يكون عورة، فيمسكوا عنه! وبمعنى أدق، علمُوهم متى يكون الصمت (لغة) تغني عن الكلام!