د.عبدالله مناع
مع هذه (التحوّلات) المجتمعية الصفحة، والمتلاحقة.. التي قادها ويقودها بـ(ايمان) وشجاعة وثبات (ولي العهد) الشاب الأمير محمد بن سلمان.. بدءاً بالسماح لـ(المرأة) بقيادة السيارات.. إلى دخولها الملاعب والإستادات الرياضية لمتابعة بطولات (كرة القدم) ومنافساتها.. إلى رفع الحظر عن الغناء والموسيقى، والمغنين والموسيقيين.. والسماح لهم بتقديم أعمالهم الفنية والغنائية على مسارح: الرياض وجدة وأبها وغيرها.. بل وفتح الأبواب أمام (هيئة الترفيه) لاستقدام المشاهير منهم غنائياً وموسيقياً.. للقدوم إلى المملكة، وتقديم أعمالهم الغنائية والموسيقية لـ(عشرات) الآلاف من عشاق فنهم، الذين كانوا يسافرون من أجلهم -في الماضي القريب- إلى القاهرة وبيروت.. لرؤيتهم والاستمتاع بفنهم، ثم تحول بعضهم إلى (دبي) و(المنامة).. -بعد أن حلتا- خليجياً- محل القاهرة وبيروت.. في استقبالهما لكبار الفنانين العرب.. لبيع حرية مشاهدتهم على مواطنينا، الذين وجدوا في قرب كل من (دبي) و(المنامة).. ما يجعلهم يفضلون الذهاب إليهما بدلاً من انتظار الصيف وإجازته للذهاب إلى القاهرة أو بيروت.
***
لقد كان في مقدمة هذه التحوّلات المجتمعية الضخمة.. التي اعتمدت بوعي وفهم ودراية: على إيقاف «الخلط» ما بين ما هو (ديني) يقرره الكتاب والسنة، وما هو (مجتمعي) يقرره الناس وعاداتهم، والتي وجدت قبولاً واستحساناً.. حتى من المواطنين المحافظين.. وفرحاً وتهليلاً من (المقيميين).. حديث طويل مسهب عن (السينما) وعودتها، والتي منع قيام دور عرضها في اللحظات الأخيرة.. بالمدن الرئيسية الثلاث: الرياض وجدة والدمام.. فتنة (جهيمان) وعصابته في أواخر سبعينات وأوئل ثمانينات القرن الماضي، خشية (الاختلاط) بين (الجنسين)!! تماماً كأولئك الذين أفتوا -من قبل - بأن (تستر) المرأة لا يكون إلا بارتدائها لـ(عباءة) سوداء وليست رمادية أو بيضاء أو زرقاء..!! أما ما قبل ذلك.. فقد كانت (السينما) حاضرة وموجودة في البيوت والأحواش وفوق أسطح المنازل ليلاً.. في معظم مدن المملكة إن لم يكن فيها جميعاً.. منذ أربعينات وخمسينات القرن الماضي أيام الملك المؤسس (عبدالعزيز بن عبدالرحمن) -طيب الله ثراه-.. وإلى خلفائه (سعود وفيصل وخالد)، ثم توقفت عجلة (الفن) في المملكة موسيقياً وغنائياً وسينمائياً ومسرحياً.. ولم ينج من قبضة افكار (جهيمان) التدميرية.. إلا (الفن التشكيلي) ليس تقديراً له.. ولكن لـ (عدم فهم) مقاصده، ليعود اليوم.. مع ولي الهد الأمير (محمد بن سلمان) الحديث مجدداً عن الفنون كلها..، وليس عن (السينما) وحدها وما حولها من تبديد لـ(مزاج) مدرسة (سوء الظن)، وبما يوحي بأن فجراً جديداً قادماً.. سيطل قريباً على هذا الوطن.
***
وإذا كان قد تفاوت وجود (السينما) من عدمه في مدن المملكة.. أما بسبب عدم وجود الـ(كهرباء) لتشغيلها، أو لعدم وجود (مشغل) لـ(مكنتها).. أو لصعوبة الحصول على أفلام عربية جديدة (16 ملم) لعرضها وتقديمها لـ(المشاهدين)، فإن هناك مدناً ثلاث -على الأقل- عرفت (السينما) مبكراً.. وعاشت معها، واستمتعت بها، وتعلمت منها فنون الحياة.. هي: «جدة».. بسبب السفارات الأجنبية التي أقامت فيها منذ عام 1802م..، وهي تتغلب على ظروف محاصرتها من قبل رجال (الهيئة): الحاضرون دائماً والغائبون أحياناً، ومدينة (الدمام - الظهران).. لوجود شركات التقيب الأمريكية فيها منذ ثلاثينات القرن الماضي، ومدينة (عرعر) أو مدينة شركه (التابلاين) في شمال صحراء شبعه الجزيرة العربية، التي سماها الصديق الدكتور عبدالواحد الحميد بـ(أم الدنيا).. لأنه كان بها محطة لـ(التلفزيون)، ودار عرض سينمائية.. وأنها كانت تضاء بالكهرباء ليلاً.
إلا أن «جدة» وهي الأسبق في التعرف على (السينما) ومشاهدتها، بل واقتنائها في كثير من البيوت.. فقد كانت هي صاحبة (الذاكرة السينمائية) الأعرض والأكبر.. فـ(السفارات) التي بدأت في (جدة) بـ(السفارة البريطانية) عام 1802م.. عرفت السينما عند اكتشافها (صامته) فـ(ناطقة) ثم تتابعت بعدها السفارات: الهولندية فـ(الفرنسية) والإيطالية والأمريكية.. أما السفارات الإسلامية (المصرية) و(الهندية) و(الإيرانية) فقد سبقت ذلك، وقد كان لمعظم هذه السفارات.. إنتاجها من الأفلام السينمائية، التي كانت تقيم عروضاً لها داخل سفاراتها في إجازات نهاية الأسبوع.. وهي تدعو لـ(حضورها) علية القوم والنخب الجداوية.. إلى أن كسرت (السفارة الهندية) في مقرها بحارة الشام ذلك التقليد، وفتحت أبوابها مساءً الخميس من كل أسبوع لكل الراغبين في مشاهدة أفلامها.
على أيّ حال.. أسفرت (سينما السفارات).. إلى ما يمكن أن نسميه بـ(سينما الحارات)، فقد أخذت تظهر في حارات جدة تباعاً: أسماء.. تملك أحواشاً كبيرة مؤثثة ومجهزه لعرض الأفلام السينمائية مقابل ريالين أو ثلاث ريالات.. كـ (السحرتي) والجمجوم وعمر غالي في حارة الشام، و(باسكران) في المظلوم، و(البارودي) في (اليمن) و(محمد أبو صفية) في (الهنداوية).. إلى جانب تقديم كثير من بيوت الأغنياء والقادرين أفلاماً سينمائية في مقاعدهم ودواوينهم كـ (بيت فايز) في حارة المظلوم، وبيت (السرتي) في حارة الشام، الذي رأينا فيه عدداً من الأفلام السينمائية.. ونحن في المرحلة الإعدادية.. كان من أجملها فيلم: (الزوجة السابعة) بطولة الفنان الموهوب والموسيقي الفريد من نوعه: محمد فوزي، والذي غني فيه أغنيته الجميلة والشهيرة: (آدي الميعاد.. قرب، ولا جاتش. الساعة.. وقفة؟! واللابتمش.. آدي الميعاد قرب)..! وفيلم (رصاصة.. في القلب) عن رواية (الرباط المقدس).. للكتب الفنان.. الأستاذ الكبير توفيق الحكيم الذي قام بتمثيله الأستاذ محمد عبدالوهاب، والأستاذ سراج منير والفنانة المتفردة: (راقية إبراهيم).. فكان درساً كـ (سابقة)، وكـ(لاحقة) فيلم: (غزل البنات) لساندريلا الشاشة المصرية الفنانة القديرة (ليل مراد).. والمفارقات التي امتلأ بها (الفلم) بين: (الباشا) الذي يملك مالاً بلا ثقافة، ومدرس اللغة العربية الذي يملك ثقافة واسعة ولا قرشاً واحداً في جيبه!! إلى أن رأينا في (سينما الحارات) فيلم الأفلام الجميلة: (شاطي الغرام).. للفنان (حسين صدقي) والفنانة الرائعة (ليلي مراد)، وهي تغني لـ(الميه والهوى) على شواطئ (مرسى مطروح): (يا ساكني مطروح، جنية في بحركم/ الناس تيجي وتروح.. وأنا عاشة حيّكم/ اثنين.. حبايب الروح للميه والهوى).
وقد شهدت (سينما السفارات).. في تلك الأيام تطوراً نوعياً مرغوباً.. عندما تحول بعضها -بعد الاستئذان من الخارجية- إلى (أندية) بـ(عضوية) مدفوعة القيمة.. -كـ(النادي الإيطالي) بحي البغدادية- مقابل مشاهدة أفلام (النادي) ضمن رسوم العضوية، أما (الطعام) الذي يطلبه (العضو) من مطعم النادي.. فإن عليه أن يدفع قيمته.
لتقفز (سينما السفارات) و(الحارات) قفزتها الكبرى.. عندما أقام (العطاس) إلى جوار فندقة ومطعمه و(بلاجه).. على شواطئ (البحر الجنوبية): (أول) دار (سينما صفية) في مدينة جدة.. في النصف الثاني من السبعينات الميلادية من القرن الماضي، وقد شاءت الظروف أن أحضر أحد عروضها، وهو ما جعلني أقول -آنذاك- بعد أن استقرر بي المقام في مقعدي: أخيراً أصبحت لدينا دار سينما في (جدة).. (زي الناس)!!: لها (شباك تذاكر)، و(نادل) يصحبك إلى مقعدك.. وليس هناك ما يهدد مشاهدتك لـ(الفيلم).. بـ(كبسه) من (الهيئة)، أو بـ(انقطاع) للكهرباء يقوم به أحد العاملين في الشركات الأهلية التي تزود جدة بالكهرباء: كـ(السرتي).. في شمال جدة، و(باغفار).. في وسطها، و(أبوزناده) في جنوبها.. قبل أن تقوم (شركة الكهرباء العمومية) التابعة لوزارة المالية في أوائل خمسينات القرن الماضي.
وبمنطق التطور الطبيعي للأشياء.. فقد كان مقدراً ومتوقعاً ..إقامة دار سينمائية شتوية -أو أكثر- داخل مدينة جدة.. إذ لم يكن مقدراً أو متوقعاً ان يظهر فجأة (جهيمان) وعصابته، وأن يقفوا في شارع التاريخ والتطور.. بـ(العرض)، كما كان يقول الصديق المرحوم الأستاذ عبدالله الجابري.. فيمنعون حركة السير فيه!! فبدلاً من أن تقام تلك الدار الشتوية.. اضمحلت (الدار الصيفية)، واستخدم الموقع لغايات أخرى، وكان على (الوطن) ان ينتظر ثلاثين عاماً.. حتى يأتي ولي العهد -الشاب- الأمير محمد بن سلمان، ويعلن عن اعتزام (الدولة) إنشاء ثماني وأربعين داراً للعروض السينمائية في مختلف مدن المملكة. أولاها.. في العاصمة: الرياض.. ربما مع نهاية شهر إبريل الجاري.. فمرحباً بـ(الأمير) وقراره المرتقب.