د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
لا يمكن لأحد أن ينكر دور النقد في التطوير والتحسين، ولا يمكن أن يتجاهل المنصف الأثر الكبير الذي تنتجه هذه الممارسات في الارتقاء بالأعمال نحو الأفضل والأجمل والأكمل، شريطة أن يكون هذا النقد صحيحاً بنَّاءً خالياً من المجاملة وتحقيق المصالح الشخصية، وأن يجد آذاناً صاغيةً تُحسِن الظنَّ به، ونفوساً تتقبَّله بصدورٍ رحبة، وتعمل بما تراه مناسباً منه.
غير أنَّ هناك أصواتاً تظهر بين الحين والآخر، ترفض هذه الممارسات النقدية، وتأبى الإصغاء إلى ما تحمله من توجيهٍ وإرشاد، بل وتطلب من أصحابها الصمت والانكفاء والاكتفاء بالمشاهدة، بحجة أنَّ هؤلاء النقَّاد لا يعملون! ولا يُقدِّمون شيئا! وأنهم عالةٌ لا فائدة منهم! ولا شغل لهم سوى الكشف عن مواضع النقص، وتنبيه الناس إلى مواطن الخلل، ومن ثم فهم يرون أنه لا حقَّ لهؤلاء النقاد في هذه الممارسات، وأنه لا يجوز لهم أن يتدخلوا في أعمال الآخرين ما داموا لم ولن يعملوا شيئا!
وقد حاولتُ أن أجد أيَّ مبررٍ منطقيٍّ لهذا الموقف العجيب، وبحثتُ عن أيِّ مسوغٍ عقلاني لهذا التوجه الغريب، فلم أجد له ما يقنع، ولم أعثر له على ما يشفي الغليل، ولم أتمكن من استيعاب منطقية ما تدعو له هذه الأصوات، ولم أصل إلا إلى حقيقةٍ واحدة، وهي أنَّ أولئك المتأففين من النقد بتلك الحجة الواهية لا يحبون النقد أصلا، يأنفون منه ولا يرضون به، ربما لأنهم تعودوا على التطبيل والتزمير، أو ربما لأنهم لا يريدون أن ينكشف تقصيرهم ويتجلَّى عوارهم أمام المجتمع، فيتكبدون الخسائر الشخصية، وتتهاوى سمعتهم أمام المجتمع، وتتشوه صورتهم أمام المسؤول، ويفقدون الثقة، التي أوضحتْ مواقفُهم من النقد البناء أنهم لم يكونوا أهلاً لها.
إنَّ مَن يسعى إلى التطوير، ويحاول أن يرتقي إلى القمة، ويبحث عن الكمال والإبداع والنجاح وتحقيق الأهداف باحترافيةٍ ودقةٍ وبراعةٍ لا بد أن يصغي إلى النقد، ولا بد أن يكون رحب النفس واسع الصدر لكلِّ نوعٍ من أنواع النقد الذي يُمارَس تجاه كلِّ عملٍ يقوم به، وأظنُّ أنَّ هذا هو الفكر الذي ينبغي أن يكون لدى كلِّ مسؤولٍ إذا ما أراد حقاً أن يصل إلى القمة ويحقق النجاح، ويخدم دينه ووطنه ومجتمعه على الوجه المأمول.
إنَّ هذا الفكر الواسع الذي يتقبَّل النقد، ويرحِّب به، ويفتح الصدور لاستقباله، هو في الحقيقة عاملٌ مهمٌ من عوامل اختصار الزمن، وتحقيق النجاحات، وبلوغ الأهداف، وأظنُّ أنَّ أصحاب هذا الفكر لم يكونوا ليصلوا إلى هذه المرحلة الإيجابية لولا أنهم أحسنوا الظن بهذا النقد وبأصحابه، وكان عندهم يقينٌ عميقٌ بأنَّ هذه الممارسات لم تصدر إلا رغبةً في الإصلاح، وتسديد النقص، والتنبيه على مواضع الزلل.
إنَّ عدَّ العمل والإنتاج، وتصحيح الأخطاء دون الاكتفاء بالتنبيه عليها، والمشاركة في المشروع المنقود، شروطاً لقبول النقد من صاحبه، أمرٌ لا زلتُ لا أفهمه حتى الآن، فما علاقة كون الناقد منتجاً أو غير منتج بنقده لأخطاءٍ رآها على الجانب الآخر؟ وهل يجب أن يعمل الناقد مع المسؤول حتى يُقبل نقدُه؟ وهل من واجب الناقد ألا يكتفي بالنقد والتنبيه على مواطن الزلل والتقصير، بل لا بُدَّ له أن يصحح الأخطاء، ويعالج الإشكاليات، ويوجد الحلول؟ إنَّ هذه الرؤية لا أساس لها من الصحة، لأنه لو كان الأمر كذلك لما تجرأ أحدٌ على النقد، ولتكاسل النقاد عن تقديم ممارساتهم، ثم إنَّ الهدف من النقد لا علاقة له بهذه الأمور المشروطة.
إنَّ الناقد ليس مطالباً بالتصحيح، أو حلِّ المشكلات، أو تقديم البدائل والمقترحات، فإن فعل ذلك فهذا فضلٌ منه ومِنَّةٌ ونورٌ على نور، وإن لم يفعل فحسبنا أنه قام بواجبه الأساس، وأدَّى وظيفته الرئيسة، ولم أسمع يوماً أنَّ ناقداً أدبياً -على سبيل المثال- طُولب بإصلاح نصٍّ أدبيٍّ وتعديله بعدما انتقده وبيَّن ما فيه من مواطن الضعف والزلل، ولا أعرف أبداً أنَّ ناقداً أميناً اشتُرط عليه أن ينظم قصيدةً حين كشف أنَّ قصيدة ذلك المبدع ضعيفةٌ لا ترقى لأن تكون نصاً تتوافر فيه شروط الإبداع.
إنه لمن المؤسف أن تصغي لبعض المسؤولين أو المبدعين -أو غيرهم ممن يحاول أن يبذل جهوداً ويُقدِّم أعمالا أياً كان نوعها- وهم يرفضون النقد بحجة أنَّ الناقد لم يعمل مثلما عملوا، ولم يواجه من المتاعب والمصاعب والعقبات مثلما واجهوا، وكأنهم كانوا مرغمين على العمل، أو أنهم كانوا يعملون لوجه الله، وكأنه من شروط قبول النقد عنهم أن يأتي الناقد بالبديل، وأن يقوم هو بتصحيح الأخطاء، وألا يكتفي بالفرجة والمراقبة من بعيد!
إنَّ الواقع المشاهد يؤكد أنَّ جميع المسؤولين الناجحين، وكل المبدعين المتميزين، كانت صدورهم مفتوحةً للنقد، لم يكونوا يسألون: من أين أتى؟ وما نية الناقد؟ ولم لا يعمل معنا ويصحح أخطاءنا؟ كانوا يصغون إلى تلك الانتقادات ويدرسونها جيدا، ويأخذون منها ما يرونه منطقياً مقنعاً يسهم في تطورهم والارتقاء بعملهم وتحقيق أهدافهم، بل يشكرون كلَّ مَن دلَّهم على موطن زللٍ أو جهة ضعفٍ أو موضع نقص، ليعملوا بجدٍّ في التسديد والإكمال والتصحيح، دون أن يشغلوا أنفسهم بسوء ظنٍّ أو ردودٍ تكشف جهلهم وتهربهم وقلة حيلتهم.