وتساعد اللسانيات التلفظية منتج الخطاب في أي مقام من مقامات التواصل الشفهي والكتابي على السواء على اختيار الرؤية التي منها ينظر إلى المكان في هذا المستوى؛ لأن التلفظ بشكل المكان أو إن شئنا اختيار نوع الشكل يصبّ في مجرى تشكيل الموضوع الخاص بالمقطع الحكائي الذي يستخدم المكان. فعندما اختار نجيب محفوظ في زقاق المدق أن يكون الزقاق ضيّقًا مغلقًا لا يمكن للمارّ أن يعبره أو يجتازه للمرور إلى ما وراءه من الأمكنة فإن الاختيار الهندسي أو الجغرافي والمجالي كان في خدمة الدلالة العامة للزقاق, وهي أنه يمثل الفضاء المحافظ من المدينة العتيقة، أي الجانب الذي لا تكثر فيه الحركة، ولا يتردد عليه إلا ساكنوه أو ضيوفهم، بعكس الأمكنة المفتوحة في المدينة الحديثة وفي الشوارع الفسيحة المحتضنة لأنماط اجتماعية مختلفة حيث تتحرّك نماذج من الشخصيات المجهولة، التي لا صلة لها بالوسط الاجتماعي الذي تعيش فيه. وفي التلفظ بالمكان تتداخل أنساق الوصف بمقتضى ما يطلبه أيضًا الموضوع أو حسب وجهة النظر إلى الموضوع. فزقاق المدقّ اختيار لفضاء مكاني مغلق كما ذكرنا، والتحييز المغلق إدراك للمكان من زاوية نجدها في الركن، والسقف، والدهليز، والزقاق، والخزانة, والدولاب، وفي المصعد في المدينة حيث يمارس الإنسان الصمت الاجتماعي، وفي غيرها من الفضاءات التي لا تمثل أمكنة بقدر ما تكوّن زوايا إدراك ونظر إلى طيف من الأمكنة أو ظلال أمكنة، وتؤلّف مجتمعة إمكانات داخلة فيما سمّيناه بالجغرافيا المجالية الشعرية، وفي تحليلها تتقاطع معارف علم النفس التحليلي والشعرية السردية. فالجسر والمطار أو المعابر الحدودية عامة، والشارع والطائرة والسوق والمقهى والسوبرماركت والجامعة والحديقة العامة.. تكوّن في الجغرافيا المجالية أمكنة حدودية منفتحة أو تخومية، وظلالاً لإدراك الحقائق المتداخلة والمتفاعلة والواصلة بين الفضاءات المختلفة، والمتحاورة أحيانًا بأصوات ثقافية متحاورة في موضوع من الموضوعات الخلافية. في هذه الأمكنة يتعاظم الإحساس بالهوية والإحساس بذاتية المكان؛ لأنّ الآخر يصبح أعمق بُعدًا عن الذات المتكلمة، أو العكس، وهي أيضًا الأمكنة التي تكون فيها الشخصية مستعدّة للتأثر والتـأثير والتحوّل. وكذلك الأمكنة التي تحمل رؤية الراوي ومن ورائه الكاتب للموضوع الذي يجسّمه المكان، فأنْ تجلسَ شخصيةٌ ما في ركن من أركان البيت، أو في زاوية من الزوايا، أو تسكن فزنقة الحيّ هو اتجاه في استغلال الجغرافيا المجالية، وكتابتها يكرّس - كما سبق أن ذكرنا - فكرة الانزواء أو الانقطاع عن العالم أو غيرها من مظاهر إدراك ذلك العالم. هذه الجغرافيا الشعرية المجالية هي التي استغلّها طه حسين في الفقرة الأولى من الفصل الأول من الجزء الأول من سيرته الذاتية (الأيام) حيث أقام التخييل الذاتي على ما دون القناة وما وراءها. فالجغرافيا الشعرية المجالية هي الخطاطة أو الطراز الإدراكي الذي يستند إليه كل مبدع لبناء موضوعه، أو على الأقل لإثراء مسالك الموضوع، ولتنويع التقاطعات الثقافية بحسب حاجة الأطروحة التي يحملها الخطاب؛ لأن المكان أو ظلّ المكان مكوّن رئيس من مكوّنات الذات الكاتبة في جميع ألوان الأدب، ومكون من مكونات المقروئية؛ وبهذا فهو مفهوم عابر للغة في مختلف سياقات التواصل بها.
وعندما اختار نجيب محفوظ أيضًا أن يكون المكان الأول في ثلاثيته «بين القصرين»، ويليه المكان الثاني قصر الشوق، ثم السكرية، فقد اختار مكانًا «بين بين»، أي بين جيلين وعصرين، أو مكانَ تقاطعِ نوعين من الثقافة. وكان التحوّل الثقافي والسياسي والحضاري الذي عاشته الطبقة الوسطى في المدينة، وفي مصر عامة، هو الذي وجّهه إلى اختيار شعرية «البين بين»، فكان عنوان الرواية بين القصرين، أي بين عصرين أو بين رؤيتين، رؤية قديمة تمثّلها شخصية السيد أحمد بن عبد الجواد، ورؤية حديثة يمثّلها ويعبّر عنها جيل جديد يعيش اختلافًا مع الجيل الماضي، هو جيل أبنائه فهمي وياسين وكمال.
إن تأسيس جماليات التلفظ بالفضاء بل اكتساب آليات التواصل باستخدام المدركات المكانية التي تتقاطع فيها الأبعاد الثقافية لم يواكبه في الأبحاث السوسيوأدبية والثقافية تفكير في مقولات تقاطع الإدراك الجمالي، ويمكن من خلال تحليل الإدراك المكاني البصري والسمعي والشمي والذوقي أن نبيّن أن هذه المقولات لا تعني في الخطاب الإبداعي إطارًا ثابتًا جامدًا بل تحيل على فضاء ثقافي/ نفسي/ اجتماعي/ جمالي يتحدّد بحجمه كالطول والعرض والسطح والعمق والضّيق والاتساع، وباتجاهاته كالارتفاع والانخفاض، وبظلاله وبرؤية المتكلم من خلال العالم الاستعاري الذي يدركه باللغة، وبمقتضى التراسل المعرفي في المعطيات المتصلة بالفضاء بين الحقول الثقافية المختلفة. وهذا الإدراك هو الذي يسهم في إثراء تأويل شعرية القصيد مثلاً، وفي استكشاف جماليته. وإدراك المكان في الإبداع الأدبي هو كذلك حركة التبئير ووجهة النظر التي يرسم من خلالها الراوي نظرة الشخصية إلى الأحداث وإلى غيرها من الشخصيات، وإلى الزمان وإلى المكان. ولا يستقيم التبئير إلا بثقافة مكانية في غاية العمق والدقة والتنوع الثقافي والجمالي. إنّ شعرية الفضاء لا تكمن في ذكر مكان بعينه، وإنّما هي تحويل ثقافة المكان برموزها المختلفة، وبما تحمله من دلالات إلى معنى أدبي ذاتي أو موضوعي، أو نقلها إلى موضوع من موضوعات التعبير الفني؛ فالمدينة في الشعر وفي القصة القصيرة وفي الرواية لا يمكن أن تكون موضوعًا أو تيمة بمجرّد ذكر لفظة المدينة ذاتها أو ذكر بعض فضاءاتها المنفتحة، كالفندق والمطار والرصيف والشارع، أو المنغلقة كالسجن ومأوى المسنّين. كلاّ، بل إنّ المدينة في الخطاب الإبداعي العالمي شعرًا ونثرًا على السواء إنّما هي حصيلة تلك التقاطعات الاجتماعية والبيئية والمعمارية، وهي ذلك التصرّف التخييلي في عالم المدينة وما فيها من مؤسسات تواصل. وهذا التصرف التخييلي لا يمكن أن يؤتي أكله دون تقاطع بين السجلات الثقافية. إنّ المدينة بما هي ركن فني في القصيدة أو في القصة، أو بما هي موضوع روائي في الخطاب الروائي العالمي، تحمل القارئ على استكشاف دروبها ومسالكها وأصواتها الثقافية وما تزخر به من تجارب الحياة، ومن تنوّع في وجهات النظر. وإنّ المدينة في الآداب العالمية ممكن إنساني متعدّد التخصصات، وفضاء تواصلي قائم على الاستماع إلى تقاطع المعارف وتبادلها في فضاءات فرعية مختلفة نوعيًّا من جهةمظاهر استهلاك الخطاب، وهو فضاء يقوم على الإنصات إلى الغير ومفاوضته وتقاسم المصالح ودوائر النفوذ اللغوي معه، والانتباه إلى مظاهر الاختلاف مع الآخر، وهو ما نحتاج إلى تعميق النظر فيه، والحفر في مختلف طبقاته.
** **
- أ.د. صالح بن الهادي بن رمضان
... ... ...
للتواصل مع (باحثون)
bahithoun@gmail.com