تتعثرُ اللغةُ حينما تراودني الكتابةُ عن عَلَمٍ من أعلامِ العربيةِ، فأجدني حَائرًا من أين أبدأ، وكيف أقولُ، وماذا أقولُ عن رجُلٍ سقطَ سهوًا من العصر الأموي وما بعده، ليروي لنا علوم مشائخه الكبار؛ الخليل، وسيبويه، وأبي الأسؤد الدؤلي، وابن جنّي، فأثرى ساحات العلم وميادين الثقافة. رجلٌ جمع بين العلم والرحمة، ولا شيءَ سواهما، في زمنٍ قلَّ أن تجدَ من يجمع بينهما، فهل أكتب عن أبي أوس العالم؟، أم أبي أوس المعلِّم؟، أم أبي أوس الإنسان؟. إذ لا أجدُ كلماتٍ تليقُ بالحديثِ عن قامةٍ علميةٍ سامقةٍ، منحتنا دفءَ قِيَمِها ونُبلها، لكني سأمتطي صهوةَ الكتابة، وأقتربُ قابَ قوسٍ أو أدنى؛ لأكتب عن شخصية أبي أوس، التي استطاعت بقدرةٍ فائقةٍ، ومهارةٍ عاليةٍ أن تغوصَ في أعماقِ اللغةِ والثقافةِ، وتستخرجَ نفائسَها، وتسقي فلواتها، وتحيي مواتَ حروفِها، وتنفخَ فيها روحَ الجدَّة والاستعمال، فأثمرتْ تجربتُه الأكاديميةُ في تخريجِ كوكبةٍ من العلماءٍ والباحثين الأفذاذ، وضعَ بين أيديهم كنوزَه النفيسةَ، فنالوا من جواهره، وسُقوا من معينه، غيثًا مدرارًا، همَى عليهم بلا ضجيجٍ ولا مواعيد، وإن كنت لستُ منهم، لكني قد نلتُ من جنانه، ورويتُ عنه ماءَ المعرفة، سواء من مجالساته، أو كتاباته، وأحيانًا من أسئلتي الفضولية المتكررة كلما ألتقيتُه في قسمِ اللغةِ العربيةِ وآدابها بجامعةِ الملك سعود، في مكتبه المفتوحِ كقلبه، فأروي ظمأي، وأُشبِعُ نهمي، بما لديه من إحاطةٍ واسعةٍ، ودرايةٍ واعيةٍ، وما زلتُ حول سنائه أتطلع. وكأنما عناه أبو تمّام بقوله:
هُو البَحْرُ من أيِّ النَّواحي أتيتَه * * * فلُجَّتُهُ المعروفُ والجُودُ ساحِلُهْ
أما أبو أوس الإنسان فتجده في تواضعه الجمِّ، وخُلقهِ الرفيع، رحبَ الصدرِ، واسعَ الأفق، لم يدخله نوعٌ من العُجب بالذات، أو إحساسٌ زائغٌ بالغرور، يبحثُ عن الحقيقةِ أينما كانت بموضوعيةٍ خالصةٍ، ويقدُّمُها لطلابهِ وقرّائِه، متحليًّا بأخلاقِ العلماءِ الكبار في الماضي والحاضر، يرهفُ إليك سمعَه إذا تكلمتَ، ويهمسُ في أذنِ طلّابه في قاعاتِ الدرسِ والمناقشاتِ العلميةِ بأسلوبِ الناصحِ، وكأنه يريد أن يتعلّمَ منهم، فضلًا عن اهتمامه الكبير بأحوالهم، وتحسُّسِ أوجاعهم، وتفقّدهم إذا غابُوا، ومبادراته بتقديم العون والمساعدة إذا ألمّ بأحدهم أيُّ خطبٍ، محاولًا بكل ما يمتلكه من حبٍّ، وما يعتز به من إنسانية، أن يمنحهم شيئًا من السعادة التي غادرتهم، ويغمرهم بالفرح الذي لا يجدونه إلا من آبائهم. أَحَبُّ اسمٍ يفضِّل أن يُعرفَ به في الوسط الثقافي والأكاديمي، هو (أبو أوس إبراهيم الشمسان)، بعيدًا عن الأضواءِ والألقابِ، والزهوِ بدرجته العلمية، وقد نجحَ بهذا التَّجاوزِ في إمكانيةِ رؤيةِ نفسِه على حقيقتها، ومن ثمَّ رؤيةِ الآخرين، والواقعِ من حوله، وهذا هو حالُ المبدعين والعظماء، الذين يرون الريادةَ بالعلمِ والبحثِ والتَّقصي والرَّحمة ولينِ الجانب، وليس بالاستماتة للوصول إلى سفح الريادة والشهرة بأية وسيلة كانت. حفظه الله وأمَّ أوس، ونفع بعلمهما.
** **
- زيدان عودة