لم أشأ عنوانًا؛ لأني لم أرَ أوعى من كنية سارت في آفاق اللغة والنحو، وصارت رائجة بين المشتغلين في حقول العربية بحمولتها ووهجها؛ إذ آخت بين الأصالة والمعاصرة.
أبو أوس من جيل عصاميّ نهد إلى العلم مغالبًا في سبيله صعابًا زادته جلدًا ومضيًّا؛ فلم يصغِ لصوارف الزمان، أو يركن إلى الراحة والدعة، بل حمل عصاه في ضروب الضاد؛ منقّبًا ومعقّبًا؛ نابذًا النظرة السكونيّة، أو الإخلاد إلى رأي.
إنّ هذا الدأب سَنَنُ العلماء الذين سرى العلم في نسغ أجسادهم؛ فتمكّن من أرواحهم مثلما تملّك ألبابهم؛ فالمراجعة معاودةُ أنفاسٍ لا حياة إلا بها، ومثاقفة الآراء إرواءٌ لها من لذيذ مشارب العقول؛ فما كان أبو أوس ينتجع العلم وقت فراغ، أوحين المستراح، بل كان حيًّا في ضميره يملأ سمعه وبصره.
لذا التقط بدقيق النظر وحسن الإصغاء كثيرًا من الملاحظات التي تبلورت مشاريعَ علميّةً تنوّعت موضوعًا وخطابًا ووظيفةً؛ إذ صاغ كتبًا رصينةً في تأصيل الدّرسين: النّحويّ والتّصريفيّ، أو تعليميّةً تنهج الإيضاح والتيسير، وأخرى تنفتح على اللّسان الاجتماعيّ؛ موسّعًا بذلك نطاق التّأثير؛ إذ لم ينكفئ على المختصّين أو المهتمّين؛ ممّن لا يخرج خطابهم عن الصوت والصدى.
ولعلي أستشهد بكتابه الذي نُشر مؤخرًا الموسوم بـ(معجم أسماء الناس في المملكة العربيّة السعوديّة)؛ فقد بلغ ألف ورقة إلا خمسين؛ مستفرغًا جهده ثلاثين ربيعًا؛ إذ بذره عام 1991م بعنوان: (نظام التسمية في المملكة العربية السعودية) ضمن موسوعة السلطان قابوس لأسماء العرب حتى أينع بحثًا رصينًا عام 1997م بمجلة كلية الآداب في جامعة الملك سعود بعنوان: (أسماء الناس في المملكة العربية السعودية) الذي آل كتابًا منشورًا صادرًا عن مكتبة الرشد عام 2006م، ثم استوى على سوقه معجمًا في هذا الإصدار الباذخ.
إن هذا المسار العلميّ، والمصارالتأليفيّ يمدّ الناظر بمستفادات علميّة تكمن في مراودة العالم فكَره، وقليلٌ من ينحو ذلك؛ لأنّ إعادة النظر تعني معاودة النقض والبناء، وهذا ما قد يعزّ على النفس، ويعسر على الخاطر، وأخرى منهجيّةٍ لا تقتصر على دقّة الملاحظة، بل تبين مدى القدرة على تعميق النظر والاستقراء؛ ممّا جعل الإصدار محقّقًا لمقولة (معجم)، وأبعد غورًا من هذين البعدين (العلميّ، والمنهجيّ) ما تعكسه التجربة لمن ألقى السمع ورأى ما تأسّس عليه هذا المشروع؛ إذ فيها دروسٌ لكلّ طالب علم تملي التروّيَ والتجريبَ والتحقّقَ والمصابرةَ، وتحرّيَ الواقع بموافاته بما ينفع الإنسان واللسان.
والحق أن هذا الجهد وحده خليق بالاحتفاء والاحتفال في عصر تواجه فيه العربيّة تحدّيات جمة؛ فكيف إذا ضُمّ إلى ذلك جملة آثاره المطبوعة، ومقالاته الأسبوعيّة في الجزيرة الثقافيّة التي تضمّنت طروحاتٍ معرفيّةً تمسّ اهتمام الجمهور؛ خاصّةً ما يمسّ الرّسم الكتابيّ، ومطارحاتٍ علميّةً ذاتَ طابع سجاليّ باهٍ بحسن المأتى، ولطف المنزع، والأدب الجمّ رغم صدع القول.
إنّ ما جُبل عليه أبو أوس من صرامة علميّة ما كانت نتاج طبيعة الدرس النحويّ كما هو مستقرٌّ في الوعي الجمعيّ من متصوّرات ذهنيّة عن علم النّحو، ولا ناجمةً من منادمة الرعيل الأول من النحاة، بل كانت إحساسًا قيميًّا بالهُويّة، واستشعارًا بمسؤوليّته تجاه لسان العرب؛ إذ بات أحدَ سدنته في هذا العصر.
** **
د.عبدالعزيز بن عبدالله الخراشي - أستاذ الأدب والنقد في جامعة الملك سعود