لم يحدث قطُّ أن رفعت قلمي لأكتب مدحًا في هذا الرجل، أو أسطر ثناءً مدبجًا بأحلى الكلمات والعبارات في آخر. ذلك، لأنني لا أتقن هذا النوع من الكتابات، ولا أحسن طرائق تجويده وإخراجه. ومع ذلك، وجدتُ نفسي مندفعًا اليوم لأكتب شيئا ما عن أبي أوس بعد أن علمت أن صحيفة الجزيرة العملاقة بصدد نشر ملفّ خاص عن هذا الرجل في غضون أيام قليلة. وسأقصر كلامي على محورين اثنين يتعلق الأوّل منهما بإنسانية أبي أوس ودماثة خلقه، ويتصل الثاني بأستاذيته ومساهماته الفاعلة في التدريس الجامعي، والتأليف المتميز في نحو العربية وصرفها.
ربما لا أكون مخطئا إن زعمت أن أول ما يلفت انتباه مَن يجلس إلى جانب أبي أوس ليتجاذب معه أطراف الحديث هذه الأناقة الساحرة في المظهر والمخبر كليهما.. يستقبلك بتحية رائعة فيها من معاني الحبّ والصدق ما فيها، وبابتسامة عريضة تبعث الدفء في نفسك وتجعلك تطمئن على قضاء وقت طيّب طال ذاك الوقت أم قصُر. ثم لا تلبث أن تجد نفسك أمام رجل على درجة عالية من الثقافة والعلم. ليس ذلك فحسب، بل تجد نفسك أمام رجل عصري استطاع تسخير تقنيات التواصل الحديثة لخدمة جهوده في ميادين: القراءة، والتأليف، وعمل المداخلات المتميزة في كثير من ضروب الثقافة والمعرفة.
تتجلى إنسانية أبي أوس في أمور شتّى لعل من أهمها هذا التواضع المثير، وهذا السلوك الحضاري المتمثل في تعامله مع أصدقائه وزملاء المهنة، بل في تعامله مع الآخر بصفة عامة. حباه الله جلّ شأنه بخصال بات كثير منها نادر الوجود في زماننا هذا، من أجلّها وأعظمها صفة الوفاء.. دعاني ذات مرة إلى مكتبه العامر فحدثني عن أهل السودان حديثا تطرب له الأسماع، وتتحرك بسببه في النفس أسمى معاني الاعتزاز والافتخار بالوطن وساكنيه. قاده ذلك الكلام الشفيف الرقيق إلى الحديث عن أستاذه السوداني الذي درسه في المرحلة المتوسطة، وكان له الفضل بعد الله سبحانه وتعالى في تكوين شخصيته العلمية بشكل عام، وفي حبه للعربية ونحوها على وجه الخصوص. وذكر لي أنه قام بإهداء رسالة الماجستير التي أنجزها في مصر إلى هذا الأستاذ، وأبدى أسفه العميق أنه لم يعد يملك معلومات عنه، وأنه يريد أن يرسل له مبلغا من المال من باب الوفاء والتقدير، ومن ثمّ طلب مني مساعدته في تحقيق هذه الرغبة. وبعد بحث لم يدم طويلا بلغني أن الأستاذ المعني توفي قبل ستة أشهر فقط من تاريخ حديثنا عنه. وبعد التشاور في الأمر أعطاني أبو أوس مبلغا من المال كبيرا، وكلفني بإيصاله لأسرة أستاذه المحبوب، وتم ذلك بعون الله، ودار حديث طويل بعد ذلك بين الطرفين فيه من آيات الشكر والثناء ما فيه.. فأي عطاء أكبر وأجل، وأي وفاء أعظم وأنبل من هذا؟!
أما فيما يخص أبا أوس الأستاذ الجامعي والمؤلف فمما لاشك فيه أن الحديث عن هذا الجانب يحتاج إلى مساحة أوسع، وإلى وقت أطول.. أستاذ ملتزم يعشق عمله، ويوليه قدرا عظيما من الاحترام والتقدير.. يذكره طلابه -على الدوام- بالخير كله.. كتبه ومؤلفاته تتحدث عن نفسها، وحسبك أن تنظر في مداخلاته اللغوية التي نشرت في سنة 1436ه لتجد فيها علما غزيرا وخيرا وفيرا، حيث عالج فيها الرجل عددا كبيرا من مسائل اللغة والنحو، فضلا عن عدد من الشهادات والمتابعات.. أبو أوس قامة سامقة من قامات العلم والثقافة في الوطن العربي. نسأل الله أن يمتعه بالصحة والعافية، والقدرة على الكتابة والتأليف لمزيد من الغنى والإثراء للمكتبة العربية.
** **
- د. علي عبد الله إبراهيم