قلت هذا لوالدي (أبو أوس) بعد أن تواترت أسماء التلاميذ من فم المعلم (محمد / عبدالله / عبدالرحمن / أحمد / خالد) ولا (أوسَ) لغيري بينها. فأدركَتْ حكمتُه - دون أن أفصح - بأن ولده محرج من اسم لا يحسن أغلب المعلمين أو الأقارب نطقه، فيدعونه مرة (أوَس) هكذا بفتح الواو، ومرة (أُوْس) بضم الهمزة وسكون الواو. فقال لي: عندما تكبر غيره إن شئت! فاطمأنت نفسي إلى ذلك وأخذت أتأمل أسماء الأطفال والكبار أتحيّنُ أجملها، فمرة أختار لنفسي اسم (محمد)، ومرة (خالد)، وأحيانا (تركي أو فيصل). وظللت على هذه الحال أنتحل أسماء وأنضوها، حتى جرت علي حادثة أيقنتُ بها أن اسمي قدرٌ لا انفكاك منه. وذلك أني سقطتُ عن ظهر ناقة خبَّت من فزعها، فكُسرت قدمي، ومكثتُ أسابيع في الجبس، أقضي سحابة يومي في غرفتي التي توارت جدرانها خلف أستار كتب لاجئة من مكتبة بيتنا الصغير آنذاك، فوقَعتْ يدي يومًا على كتاب خزانة الأدب للبغدادي، فوجدتُ في لبيد والشماخ وامرئ القيس ما سلوت به عن أولاد المدرسة، حتى بلغتُ شاهدا استدعى قصة عن الشاعر الجاهلي أوس بن حَجَر - الذي كان والدي معجبا بشعره وبه سُمّيت - ورد فيها: «فبينما هو يسير ظلاما إذ جالت به ناقته فصرعته، فاندقت فخذه، فبات مكانه، وما زال يقاسي كل عظيم بالليل، ويستغيث فلا يغاث، حتى إذا أصبح غدا جواري الحي يجتنين الكمأة وغيرها من نبات الأرض، والناس في ربيع. فبينا هن كذلك إذ بصرن بناقته تجول وقد علق زمامها بشجرة، وأبصرنه ملقًى ففزعن فهربن. فدعا جارية منهن فقال لها: من أنت؟ قالت: أنا حليمة بنت فضالة بن كلدة، وكانت أصغرهن فأعطاها حجَرًا وقال: اذهبي إلى أبيك فقولي له: ابن هذا يقرئك السلام ويقول لك: أدركني فإني في حالة عظيمة! فأتت أباها وقصت عليه القصة وأعطته الحجر، فقال: يا بنية لقد أتيت أباك بمدح طويل أو هجاء طويل. ثم احتمل هو وأهله إلى الموضع الذي فيه أوس وسأله عن حاله فأخبره الخبر فأتاه بمن جبر كسره ولم يزل مقيما عنده وبنته تخدمه إلى أن برأ فمدحه أوس بقصائد عديدة ورثاه أيضا بعد موته». فآمنتُ بأنه سبحانه لا راد لقضائه، وحمدته أن لم يعجب الوالد بشعر الأعشى الذي ألقاه بعيره عن ظهره فكُسرت رقبته.
جعلتني قصة أوس بن حجر تلك أنفض أوهام الأسماء عنّي، بل إنها استنهضت فيّ حب الشعر وطموحًا لقوله، فأخذت أنهل من الدواوين المتناثرة على الرفوف الساكنة معي، فقرأت المعلقات وعيون الشعر العربي، وحفظت منها ما تبخر أغلبه اليوم، وكم تعثرتُ في كلمات يستغلق علي فهمها، فألجأ إلى والدي فيجيبني بمعانيها واشتقاقاتها وجذورها، حتى أفهم كيف اصطلح الناس عليها وتشعبت منها كلمات بمعان أخَر. ففهمتُ منه جوهر الاستعمال الوظيفي للغة، بما فيها كلمات من لغتنا المحكية، فيوردها في أمثال وأشعار شعبية ترسخ فهم المعنى. ودلني على العديد من التفاسير والكتب والمعاجم، فيها ما فيها من كنوز يغفل عنها أمثالي، منها الإفصاح في فقه اللغة الذي زوى كثيرا مما دعته العرب من مخلوقات وأصوات وجمادات، وكتاب رد العامي إلى الفصيح للشيخ أحمد رضا، وهو قاموس لكلمات عامية فيها معنى الفصيح، وكان هذا شأنه مع كل سؤال لغوي، يختم جوابه بمرجع يرسو على أحد رفوف مكتبتنا، أبحر معه إلى سواحل شتى، ولا أدري أَدافعُه لهذا التأصيل والتفصيل مجرد رفع اللبس عن ولده، أم هو شغفه الأكاديمي الذي لا يخبو. وكم أشفق عليه الآن حين أذكر كيف كنت أطلب منه قراءة خربشاتي الأدبية لنقدها وتصويبها، وكيف كان يوليها اهتماما ووقتا لربما كان أنفع لنا وله لو قضاه فيما هو فيه من شغل وإنتاج علمي لا يتوقف، لكنها عاطفة الوالد، تُغالبهُ فيقرأ لي، ولا تَغلبُه فيجاملني، فلم يكن يثنيه شيء ولا أحد عن قول رأيه بصراحة لا تحجبها لباقته، ولا يواريها حياؤه المفضوح بصمته، ولا تجهضها عاطفته الجياشة التي قد تتسرب من ثنايا رصانته، كأنه رسول العربية وعلى الله أجره.
أتيح لي أن أشهد منهج الوالد في البحث والتأليف، ولا سيما كُتبه، فأراه يعتني بجمع مادتها، ويسهر على كتابتها، ويدقق في مراجعتها وكأنه يدخل بها امتحانًا، وإنما الممتحَنُ والممتحِنُ نفسه، فهو لا يرضى تمام الرضا عن عمله، ويسعى دائما إلى تجويده ويجد لذلك مساحة، ويقبل الرأي فيه ما دام علميا، ولا يجد في نفسه على منتقده شيء وكأنه يتجرد من ذاته. ولا تقل عنايته بمادة كتبه عن مظهرها، فيُعمل حسه الفني فيها، وهو خطاط ورسام ماهر وإن ادعى غير ذلك، ويستكتب بعض زملائه الجميلة خطوطهم لكتابة عناوين كتبه، واسم المؤلف وعنوان المقدمة والخاتمة والمحتويات، وغيرها من كلمات تزين رؤوس الصفحات، منهم العم صالح الحجي ألبسه الله ثوب العافية، والدكتور عبدالعزيز الزير رحمه الله.
للوالد زهاء عشرين كتابًا، ولعل أقربها إلى قلبي هو معجم أسماء الناس في المملكة العربية السعودية الذي صدر العام الماضي، فقد نشأت وهذا الكتاب قبل الإنترنت والدش والجوال، ولا أزعم أني ملم بالنهج الذي سلكه الوالد في جمع مادته ولكن لك أن تتصور كيف يفعل المرء في الثمانينات الميلادية للحصول على أسماء سكان بلاد ما. أذكر أنه استعان بقوائم طلاب الجامعات، ووزارة الداخلية، وأدلة هواتف المناطق الإدارية في المملكة، فكان يقرأ أسماء الناس في كل دليل، فيوثقها ويؤصلها ويضيفها إلى مشروعه، وأذكر اتصاله هاتفيا ببعضهم دون سابق معرفة، يستوضح منهم معاني أسمائهم وكيف تنطق في بيئاتهم. ولأنه مشروع ضخم وحيوي - ولا سيما مع تسمي السعوديين بأسماء واردة عليهم - فقد امتد العمل فيه زهاء ثلاثين سنة.
عندما رأى المعجم النور، أسرعتُ إليه لأرى ماذا كُتبَ فيه تحت اسم (أوس) فوجدت التالي:
أوْس(ذ):[أ/و/س]
جاء في (الصحاح) «الأَوْسُ: العطاءُ... والأوْسُ: الذئبُ، وبه سمِّي الرجل».
العطاء يسبق اسمك، والذئب لأبيه نشأ، وأنت سيد الرجال... شكرا على اسمي يا أبا أوس ...
** **
د. أوس بن إبراهيم الشمسان - عميد كلية الصيدلة بجامعة الملك سعود