تتزاحم الأمانيُّ والمبادئ، وتتسابق الآمال والعوائق، ويتجاذب الطمع والطموح، يغري بريق المؤهل العالي فيبعث في النفس دوافع الظفر، فلا ينفك الأمل والبريق والرتب العالية والأوسمة والجوائز يدفع النفس المشرئبة، وينفخ في الروح المتطلعة حتى تبلغ ما تريد. وما يلبث هذا الوهَج أن ينطفئ، وذلك التألق أن يخفت، لا لأنَّ المجال قد ضاق، أو أن الروض قد رُعي، ولا لأن المشاريع قد كمُلت، ولكن لأن مراتب الترقي قد اكتملت، وبلغ الأمر منتهاه، حتى وإن كان في العمر بقية، وفي كأس القوة سؤر.. فلا داعي (دنيوي)، ولا دافع من إخلاص للتخصص، ووفاء للعلم.
هذا حال كثيرين، ليس أبا أوسٍ إبراهيمَ الشمسان!
رجل بذل وبلغ، وأدرك وحصل، ثم ما يزال بعد ذلك يبذل ويجتهد، أخلص لتخصصه، فلم يتنكر كما تنكر آخرون تسنموا بتخصصهم الرتب فلم ينفعوه بعدها، أو نالوا المناصب فلم يذكروا عهدهم -وهو بضاعتهم- في قاعة الدرس، وبين رفوف المكتبة، وأشنع من ذلك من ولى وجهه طريقًا آخر، وأخذ يتهكم بالكتب الصفراء التي أوصلته إلى تلك الأحرف التي يصدر بها اسمه.
أبو أوس علامة فارقة في صفحة النحو واللغة، زاوج بين القديم والحديث، وبين ارتياد الأعماق إشباعًا لنهم المتخصص، وتبسيط المغاليق إرضاءً للشداة المبتدئين، وعامة المتعلمين.
سيرته حافلة بالمنجزات، البحوث المحكمة، والتقارير، والمحاضرات الجامعية، والعامة، والمشاركات في المؤتمرات والندوات، والإشراف على الرسائل العلمية ومناقشتها، غير ما نفع عامة القراء به من المقالات الصحفية، والمدونات الإلكترونية، لم يدع سبيلا للنفع إلا سلكه، ولا بابًا للبذل إلا فتحه.
وقد توَّج هذا الإخلاص للعلم، بخلق كريم، وتواضع يندر مثيله، لا يتكبر عن المعرفة أين كان مصدرها، ولا يتجافى عن الملحوظة مهما بلغت دُنوًّا أو عُلوًّا، مع تغافل عن زلات الآخرين، وموضوعية في تناول القضايا الشائكة.
وأذكر في هذا الصدد، موقفًا أعده من أمارات خلقه الرفيع، وتجرده للحق، وتغافله عن الزلل.
كتب أحد طلبة العلم مقالًا تعرض فيه لأبي أوس، واتهمه اتهامات باطلة، بناها على ظن، والظن أكذب الحديث، عدَّه من المتحاملين على التراث، الغاضين من شأنه، الذين ولَّوا وجوههم نحو المناهج المستوردة، فأفسدوا التراث لما تعرضوا له بالنقد، وكانوا معاول هدم لا بناء..
ظن ذلك الطالب أن أبا أوس من جملتهم، فكتب عنه عبر أحد مواقع الشبكة ما لا يقال له، ولا يليق بمثله، ظن فأخطأ، وبنى على ظنه فظلم.
فتواصلت مع ذلك الطالب، وبينت له ما أراه في ذلك، وقلت له حسب أبي أوس إخلاصه للعلم، وتواصله معه، بلهَ أنه من أهل التراث الذين هم حماته، يحوطونه بعنايتهم، ويحفظونه ممن أراد به سوءًا، وإن كان لا يمجد تمجيد الجهلة، ولا يردد تريد الببغاوات، ولا ويقدس تقديس الغلاة.
فأجابني إجابة من لم يقتنع، مع أنه -ولا أظلمه- قد قال قولًا حسنًا.
ومضى على هذا الحديث بضع سنين، انتظم ذلك الطالب في الدراسة العليا، ونال درجة من درجاتها، وطبع رسالته، التي كانت مثار إشكال واستشكال، ناله ما ناله منها، فما كان من أبي أوس إلا أن تناول رسالته في إحدى مقالاته، وأثنى عليها، وأيده في بعض ما توصل إليه من نتائج، متغافلًا عما مضى، متجردًا للعلم، محبًّا لأهله.
هنيئًا لأبي أوس ما من الله به عليه، وهنيئًا لمن كانت له به آصرة، فهو حامل مسك، لا يعدم منه صاحبه نفعًا، طاب ذكره كما طابت رائحة المسك.
** **
أ.د. فريد بن عبد العزيز الزامل السليم - كلية اللغة العربية والدراسات الاجتماعية - جامعة القصيم