أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: أرْسل وزير الخارجية الأمريكي (تشارلز دوز) السفيرُ الأمريكي في لندن رِسالَةً برقم 761 مؤرَّخة في 21 أبريل (نيسان) عام 1931 ميلاديّْاً موقعةً نيابة عن الوزير من (كاسل) أفاد فيها أنَّه استلم مِن السفارةِ الأمريكية في لندن رَدّْاً على رسالته برقم 666 المؤرخة في 10 فبراير (شباط) المنصرم مُتَضَمِّنَةً تعليماتٍ محددة بشأن مسألة الاعتراف بحكومة الملك عبدالعزيز آل سعود؛ وأشار إلى مذكرتين تَضَمَّنُهما الردُّ المؤرَّخ في 1 إبريل المنصرم برقم 1808 مُلاحِظاً فيهما مدى التأخير في وصول ذلك الرد، وملاحِظاً أيضاً قِلَّةَ التفاصيلِ التي تضمَّنها عمَّا جرى من محادثات حول المسألة مع الوزير المفوَّض الحجازي في لندن، ومع المسؤولين في الخارجية البريطانية؛ ولذلك طلب من السفارة تقريراً وافياً ومفصلاً عمَّا تمَّ في ذلك الصدد.
قال أبو عبدالرحمن: إنَّ الْـمُدَّةَ من عام 1931ميلاديّْاً هي وَقْتُ السعيِ السعودي الحثيثِ لِمُطالَبةِ أمريكا بالاعترافِ بدولة عبدالعزيز؛ وهي بدايةُ التعاملِ السعودي الأمريكي المثمر على مستوى الحكومة السعودية، وأفرادِ الأمريكان؛ فَشُرَكائِهم؛ فحكومتِهم؛ ولقد احتاج الوزيرُ المفوَّضُ الأمريكي بمكة إلى الاطلاع على المعاهدة السعوديةِ العراقية؛ لِـيُبَلِّعَ بها خارجيةَ بلادِه؛ لأنَّ من مقدمات الاعتراف الأمريكي بالسعودية، والتمثيلِ الدبلوماسي بينهما، والتعاونِ الاستثماري، والتبادلِ التجاري: أنْ تكون أمريكا على علم بالمملكة، وعلى علم بعلاقاتها مع الآخرين؛ وكان الأَهَمَّ لدى أمريكا: أنْ تكون على علمٍ بالمملكة على وجه العموم، وأنْ تكون على علم بسيرةِ الملك عبدالعزيز على وجه الخصوص، وأنْ تعلم مُدَّةَ حكمه في الوثائق الأجنبية، وأنْ تجعل هذا السِّياقَ في أحداث عام 1948 ميلاديّْاً، وليس في أحداث عام 1931 ميلاديّْاً؛ لأنَّ الغرض إبلاغُ الولايات المتحدة باتفاقية تمَّت عام 1931 ميلاديّْاً؛ وليس الغرضُ الحديثَ عن زمن إنشاء الاتفاقية؛ بل لذلك سياقُه في الوثائق الإنجليزية لا الأمريكية.
قال أبو عبدالرحمن: وبعد ذلك تَوالَتْ الأخبار عن السعودية إلى أمريكا عن طريق سفيرها في لندن عما يلزم العلمُ به من معرفة النظام في الدولة السعودية، وكيفيةِ تعاملِها مع الأجانب؛ ومصدر هذه الإفادة (حافظ وهبة) الوزيرُ السعودي المفوض، وكتب إفادتَه ابتداء؛ لأنه يُعبِّر عما في خاطر الملك عبدالعزيز رحمه الله تعالى؛ وعبدالعزيز مُتَبرِّمٌ مِن لَعِب بريطانيا على الحَبْلين وثعلبِيَّيتِها، عالِمٌ بأنَّ أمريكا هي الدولة العظمى؛ (والعظمةُ لله سبحانه وتعالى) بين دول العالَـم؛ وهي طليعةُ المدِّ الحضاري؛ ولهذا سعى رحمه الله بكلِّ جِدٍّ إلى تحصيل الاعترافِ بمملكته؛ ليتبادل معها المنافعَ من أجل بناء بلاده وَفْق تعاملٍ شريف.. إلَّا أنَّ بريطانيا خسِرتْ الصفقة مع عبدالعزيز؛ لمواقِفها الملتوية؛ وهي لا تُناسب صراحةَ الملك عبدالعزيز رحمه الله تعالى.. والخيارُ الذي اتَّخذه عبدالعزيز لمصلحة بلاده: أظهر ما كان مكشوفاً من حنَقِ وموجدةِ الإنجليزِ على دولة التوحيد؛ وهو حنقٌ تاريخيٌّ جسَّدتْه رحلةُ (سادلير)؛ وكانتْ مِن أجْلِ تقاسُمِ المكاسب مع (إبراهيم باشا)؛ ولا يُسْتَبْعد أنْ يكونَ للإنجليز يَدٌّ في تكاسل السفارة الأمريكية في لندن حول إجراءات الاعتراف كما في سياق مذكرة (والاس موري).. ولقد تزامَنَتْ بداياتُ الاتصال بين الطرفين على مستوى الحكومتين غيرِ المباشر، وعلى مستوى الأفراد والشركات، وعلى مستوى الحكومة السعودية والأفرادِ الأمريكيّْيِيْنَ والشركات؛ وبرزتْ في هذا المجال شخصية (تويتشل).. قال (ألكسندر بالدفليف): (( في شتاء عام 1931ميلاديّْاً: حضر إلى جدةَ (ش.كراين) الموظَّفُ باللجنة الحكومية الأمريكية؛ وقد أسفرتْ المباحثاتُ التي أجراها مع ابن سعود عن وصول بعثة جيولوجية صغيرة إلى السعودية برئاسة (ك.تويتشل) الذي وجد أنَّ التركيب الجيولوجي للعربيةِ السعودية يُبشِّر بالكثير؛ فاقترحَ على الملك أنْ يتخلَّص من مشكلاتِه المالية مُقابلَ أنْ يقدِّم للشركات الأمريكية امتيازاً للبحث عن الثروات الطبيعية.. غير أنَّ السوق العالمية للنفط آنَ ذاك لم تكنْ بحاجةٍ إلى مصادرَ جديدةٍ، وقد كتب الإنجليزيان (ك.تبوهيندهيت)، و(أ.هاميلتون) في هذا الصدد إفادَتَهما بأنه في عام 1930ميلاديّْاً قلَّ الطلبُ على البترولِ للمرة الأولى في الولايات المتحدة، وقد انهارتْ السوقُ تماماً بعد اكتشافِ البترول في شرق (تكساس) في أكتوبر من الام نفسه؛ إذْ إنَّ سِعْرَ البرميل قد هبط من 1.3 دولار إلى 5 سنتات؛ فبعد عددٍ مِن السنوات حقَّقَتْ فيها شركاتُ البترولِ أرباحاً ضخمة: فاصْطَدَمَتُ فجأةً بواقعٍ مُؤْلِـمٍ فَرَضَ عليها أنْ تَـخْسَرَ حتماًَ خسائرَ فادحة (170/140-141)؛ ولعلَّ هذا مناورةٌ بريطانيةٌ إنجليزيةٌ أمريكيَّة.
قال أبو عبدالرحمن: وكان الملك عبدُ العزيز رحمه الله تعالى في أزْمَةٍ ماليةٍ؛ فهو بأمَسِّ الحاجَةِ إلى رَفْعِ مستوى جيشِه بالْـمَدَدِ المالي، وإلى طُمَأْنِينَةِ العاجِزين عن الجهاد من الشيوخ والعجائزِ، ومَنْ لم يبلغْ سِنَّ الْقُدْرَةِ على القتال؛ وذلك بكفايَتِهِمْ ماليّْاً؛ لأنَّ حِسَّهُ الديني يُمْلِي عليه بإلحاحٍ أنَّهم في ذِمَّتِه أمامَ ربِّه؛ وهو في ذلك مُتَّعِظٌ بالْمَجاعةِ التي حصلتْ لهم آخر الدور الثالث للحكومة السعودية.. كما أنه يخوضُ مَعْرَكَةَ مُناوَراتٍ مع ثعالبِ السياسَةِ؛ ولا سيما من بريطانيا وأمريكا؛ ومَدُهُ بعد الله ذلك البترولُ الذي جعله الله في هذا الزمانِ مصدرَ الكفايةِ، والثراءِ معاً؛ ولهذا كان البترولُ يُسَمَّى (الذَّهَبُ الأسودُ).. كما أنَّ ذلك الزَّمَنَ هو نهايَةُ الاستقرارِ في سلطانِ آبائِه رحمهم الله جميعاً؛ وبدايَةُ استقرارِه واستقرارِ رَعِيَّتِه على ما يحفظ أمْنِهم الدُّنيويَّ، وأمُنَهم الدينيَّ الذي هو أمْنُ البشريةِ لَوْ آثَرُوه على ما يُـمْلِيْهِ الْـمُفْسِدُون في الأرض من أَيْدْيولوجياتٍ هي من وحيِ الشيطانِ كالدَّعوةِ إلى حُرِّيَةِ الشهواتِ والشُّبُهاتِ بمُختلِفِ الحِيل، وإلى لقاء إنْ شاء الله تعالى، والله المستعان.