ميسون أبو بكر
كما يخبئ العشاق رسائلهم إلى محبيهم أخبئ رسائلي التي كتبتها مضمخة بدمي، حيث جعلت يراعي امتدادًا لشراييني وأوردتي، وأودعت حرفي تلك العروق التي يجري بها مجرى دمي.
المدن نساء قد يهيم بها عاشق يدرك تمامًا أن المدينة امرأة ينتمي إليها كما ينتمي لحضن أمه سيدة الحياة أو محبوبته، وأنا التي امتهنت العشق على أبواب مدينة اكتسبت شيئًا من ملامحها حتى كدت أتطابق معها.
أنا ابنة هذه التضاريس التي أشبهها حد التوحد بها، ابنة الريح زائرتي الدائمة. حيث لا يمكن أن تنزع عني جلدي الممرغ بعرق صحراء نجد.
هم يشتاقون إلى الياسمين وإلى بيارات البرتقال وإلى الغيمات المقيمة فوق سقف دارهم معظم فصول السنة، وأنا بي حنين إلى الخزامى وفحيح الريح في ليلة موحشة، بي شوق لخيمة ضربت أوتادها في الصحراء ولنار حاتم يهتدي بها الهاربون من وعثاء السفر.
نوارسي هي صقور امتهنت صيد فرائسها من الحبارى، وشواطئ سراب مقيم على مشارف رحلة قادمة، وحبري معقود بقصائد معلقة على جدار الريح.
نجد معشوقتي التي تحدها شمالا سلاسل جبال القلب، وفي الجنوب مرافئ عشق، ويمر بها شرايين تحمل النبض والحياة، فوق هام السحب تأخذني الغرة بالحب، فأحلق حتى أصل منتهاي أو أكاد.
على موعد مع نرجسها المنثور في آنية حلمي، وفي رحلة لا تنتهي أبدًا أعبرها كقارَة مكتنزة بالفصول الأربعة، تزهر براعمي فرحًا وأملاً وأحلامًا معلقة على مشارف ليلي، توقظها عواصف قادمة من جهات القلب، فأطفق أبحث عن فارس أضعته في قبضة الريح.
يا لهذه المدينة التاريخ، لها طقوس عشق تنفرد بها، ولها عهود حب لا يستطيع لها ولاء إلا من راودته عن الحياة والحب، يا لهذه المدينة التي ألتحف صمتها وصبرها وثقافة صحرائها، وشغب طفولتها، فهي المدينة التي تحاصرك بالحب والوحدة والجنون والصخب في آن، هي المدينة التي لا يتجرأ عليها أحد وهي المطوقة بحصون قوية لا يتجرأ عليها حاسد أو معتدٍ.
الرياض جارتي من الشرفة الشاهقة التي أتلصص عليها منها في كل حين، وهي وطن يختصر الزمن وكل الحكايا، شرايين الحياة بها تزدحم بالحياة وهي صاخبة بزائريها وعشاقها وساكنيها، تعلق قصائد محبيها على جدار الريح، فتتراءى ملامح العشاق رقراقة على وهج نار مشتعلة في ليلة شديدة البرودة ما ألذ هيلها وقهوتها.
هذي الرياض.. وما أدراك ما الرياض..