د. خيرية السقاف
في الصباح الباكر كلما هم بالخروج من باب بيته ليلحق سريعًا بحافلة المدرسة, يجده آخر من يلقي إليه بالتحية بكفه الناحلة الهزيلة, وعلى محياه ابتسامة عريضة كأنها تفتح له الباب بمصراعيه, تدله على مجاهل الطريق..
وفي المساء قبل أن يودع والديه نحو حجرته ليخلد إلى النوم, يكون هو آخر من يفعل, وكأنه يفسح له مسارات الأحلام المشرقة كما ابتسامته, وهو أول من يرى عندما يستيقظ, وعندما ينام..
سنوات وجدُّه المسن على حاله, قليل الكلام, يوجه بيده, ويشير بإصبعه, ويعبر بعضلات وجهه..
وحين يتكلم فكأنه يفرط عقدًا من الدرر, براقة كلماته, موحية وجميلة, وتأخذه إلى مناطق أسئلة يذهب كثيرًا في تأملها, ويكتشف عنها ما لا يخطر له..
منذ كنت في المرحلة الابتدائية, وحتى الآن وأنا أحمل مساطري, وأجهزتي لقاعات الرسم, وساحات التجريب, ومراسم الخرائط في كلية الهندسة وجدي على حاله, ما رأيته غاضبا, ولا ساخطا, ولا متذمرا, ولا طفيليا, ولا متطفلا, نحن الذين نقتحم صمته, ونقلق وحدته, ونلوذ لصومعته..
قالها محمد هامسا لأخيه وكلاهما يهمان للجلوس إلى جدِّهما بعد أن قررا الحوار معه..
وحينما أقبل عليه اتسعت ابتسامته, جلسا جوار مقعده أحدهما عن يمينه, والآخر أمامه, حرك يديه, مسح بكفيه على رأسيهما, بادرهما بصوته المتهدج: إنها الحياة, وتفاصيلها, وإنه العقل بتفكيره, وإنها الذات بإيمانها, وإنها النفس بقناعتها, وصبرها, وثقتها, وإنها الإرادة بوثوبها, وإنه القلب بحبه, وصفحه, وإنه الرضا بيقينه, وصدقه..
بهذا ترونني على ما ترون».
تعجبا كيف أجاب عن أسئلة لم يطرحاها بعد, لكنه أقامهما بإشارة حركة عن يديه: اذهبا مسلَّحيْن بما قلت..
نهض محمدٌ مع أخيه, قبَّلا جبهته, وقبل أن يدلفا خارج حجرته, سمعاه يناديهما: تسلحا بهذا..
مضيا مبتسمين مثل ابتسامته, كلاهما يتفكران في الذي قال..