عبده الأسمري
يحاول كل إنسان أن ينال السعادة وأن يحظى بمقوماتها ويظل البحث عنها مهمة بشرية لا تتوقف ولن تنتهي..يظل باحثا عنها أين تكمن؟ وكيف يحصل عليها وكيف يستمر فيها؟ إلى غير ذلك من التساؤلات والتنبؤات والتوجسات.
مررت بحي شعبي بإحدى المدن وجدت فيه منازل شعبية قديمة جدا ليس لها أبواب سوى قطع من قماش مهترئ تغطي مداخلها.. وأمامها مجموعة من الصبية يلعبون بالتراب والشجيرات وضحكاتهم تملأ المكان يراقبهم مسنون يمتلكون صحة نفسية وجسدية جيدة..مستندين على جدار إسمنتي عتيق ويتناولون قهوة عربية مع تمرات بسيطة لا توازي عددهم وتتصدر سعادتهم المشهد في عناوين جائلة بين المزاح والمزاج.. وفي ركن على ناصية شارع ترابي وقفت مجموعة من النسوة ممن بلغ بهن العمر عتيا يفترشن الأرض ويعرضن بضاعة بسيطة من العلك والبسكويت أمام العابرين لنيل دراهم معدودات لشراء الماء والخبز والسعادة تعتلي وجوههن التي ملأتها تجاعيد الزمن ومعوقات الحياة إلا أنهم «يعيشون السعادة» ويمارسون الفرح من ثغرات الألم. هؤلاء البسطاء والمتعبون والمهمشون يجيدون التعامل مع اللحظة ويحترفون استغلال السرور ويمتهنون تغذية النفس بالبسمة يمعنون فيها يحولونها إلى مواقف يشبعون بها الذاكرة يحولونها إلى ثبات في قلوبهم وإثبات في عقولهم..خرجت من الحي وأنا متيقن بتلك الرحمة العميقة التي جعلت منهم صائدين للسعادة مقتنصين للسرور قابضين على كل الإشارات التي توحي بالارتياح..هؤلاء ليس لديهم موائد فاخرة بالطعام ولا هواتف جوال حديثة تترصد كاميراتها «أكواب القهوة» وطاولات «الكافيهات» ولا يملكون صرافات آلية متعددة لسحب المال.. لا مكان للأسرة الوثيرة للنوم في منازلهم ولا وجود للسيارات المنوعة للتجوال في حياتهم.. إنما هم عائشون وسط طبيعة البراءة متعايشون مع براءة الطبع..
سؤالي لماذا لم يتسلل إليهم الشقاء؟ كيف رسموا مشاهدهم بأنفسهم وهم أميون وفقراء ومتعبون؟.. الإجابة في أنهم يعيشون على سجيتهم منشغلون بيومهم.. غير مشغولين بما لدى الآخرين.. ليس لديهم معارك مع الغير في العطايا والمزايا..معركتهم «المثلى» مع قوت يومهم وتنافسهم الأمثل في مشاركة بعضهم المرح والفرح والترح والحزن تتقاسم قلوبهم الفرح القليل فتكثر نتائجه وتقتسم الحزن الأكبر فتخف سوءاته.. أنهم شركاء متقاسمون في المغنم والمغرم..
وفي طرف المعادلة ذاتها وردتني استشارات نفسية متعددة لمراهقين وشباب من عائلات ميسورة تتوافر لديهم كل مقومات العيش من مسكن ومأكل ومشرب وملبس وسيارات ورفاهية وبذخ ولكنهم يعيشون الصراعات والآلام والخلل والخذلان.. وعندما يتساءل أي إنسان عن النماذج والمقارنة بينها فإن الإجابة تكمن في طريقة إدارة الحياة وقيادة السلوك وبلورة المواقف.. رغم أن الفئة الأولى محرومون «تقريبا» فهم لا يملكون تعليما كافيا ولا خبرة كافية ولا إعانة أسرية ولا عونا اجتماعيا ولا متطلبات حياتية وافرة وإنما السر يكمن في التوفيق الذاتي والتوافق الاجتماعي مع الظروف والتحديات.
السعادة والشقاء هما طرفا قطبي الحياة..يظن الكثير واهما أنها تتعلق بتوفير أساسيات الحياة فقط.. وهذا يمثل أحد أدوات للسعادة ولكن هذه الأداة لم تساعد الكثير بل إنها رمت بعضهم في دوائر السوء ومتاهات الأخطاء وهذا دليل «عدم سعادته» ولهاثه للبحث عنها في مواقع تجر عليه سوءات أخرى..
السر في السعادة والشقاء يندرج تحت إدارة أساليب العيش وفي التكيف مع المقومات والعوائق فإن كان تحقيق الأمنيات «سعادة» فإن الصبر على عدم توفرها «سعادة أخرى» وإذا تعلقت السعادة بقناعة تستحل الجهاز النفسي فإن الشقاء في ملذات ترفضها «النفس» وتلفظها الروح لعدم مواءمتها مع العيش الصحيح والمنطق السليم..
الإنسان وحده من يجعل عقله «غرفة عمليات مشتركة « لتوجيه ما يملكه وتجاهل ما لا يمتلكه في إشباع ذاته وإرضاء نفسه والأمر يعود إلى قيادة الروح في خطة حياتية محكمة تتشبث بالفرح وتقاوم السوء وتلوذ بالفرار من محيطات «البؤس» وتقتحم «مساحات التفاؤل».