د. حسن بن فهد الهويمل
حملني على هذا القول المحتدم وقوعُ عيني على تغريدات مُسِفَّة، أحسب أنها لغير سعودي تعمد مُقْتَرِفُها: التصنيفَ. والتشكيكَ في النوايا. واستعداءَ السلطة على نفر بأسمائهم, يتفاوتون في كل شيء. بحيث لا تجمعهم إلا تلك التغريدة المعَرْبِدَةِ الحمقى، التي تفوق الوقاحة: لغة، ومضموناً.
وإرهاب اللسان لا يقل عن إرهاب السنان. وكيف لا يستويان مثلا, والذِّكْرُ الحكيمُ وَجَّهَ للجهاد بالقرآن, وهو كلام.
لقد أيقنت أن صاحبها: إما مدخول مُزْدَجَر. أو حزبي متعصب. أو مرتزق يبيع قدراته, دونما تبصر.
وحين ساء مخبره، لم أتردد في التماس مظهره، لسبر أغواره، حتى إذا ما شاهدت صورته مُحْفُوَّةَ الشارب، موفورة اللحية، قصيرة الإزار، أيقنت أنها شخصيةٌ بارعةٌ في المخادعة، مهيأة لاقتناص الأبرياء, واستدراج المغفلين.
لو عرف أخلاقيات الإسلام حق المعرفة, لأعرض عن تَذْوِيْتِ القضايا, وقَفْوِ المجهول: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}.
تكفير المعين, تختلف ضوابطه عند (أهل السنة) عن تكفير الظواهر, والأقوال.
والتصنيف, والاستعداء ضد معين لا يقلان خطورة عن تكفير المعين. ولا سيما أنهما يمثّلان الوقيعة بأبشع صورها.
الخطورة ليست في المظهر الملتزم، ولا في القائل الكَذَّاب. الخطورة إذا كان المجازف يعتقد أنه بخطله يتقرّب إلى الله، ويخشى عقابه.
إذ ليس بغريب الوقوع في (نواقض الإيمان) من بعض المجازفين المتسرّعين. فعبدة البقر، والفروج، والنار، والأولياء، والأضرحة، والأحجار, يرددون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}.
أولئك يؤزهم الحقد, وحب الوقيعة. والشرفاء لا يحملون شيئاً من ذلك:
(ولَيْسَ كَرِيْمُ القَوْمِ مَنْ يَحْمِلُ الحِقْدا).
بعض المواقع، والقنوات المجندة تمثّل قلة الحياء، وسفاهة الرأي، والتكسّب بأعراض الأبرياء. لأنها تفتري الكذب, وتلفق التهم, وتصنف المخالف.
وكم هو الفرق بين نبيل شريف, يرود لوطنه, ويحمي ساقته, ويحفظ ثغوره, ويحمي حماه, ومن وضيع كالذباب, ينقب عن العفن.
والحماية, والريادة لا تُسَوِّغان لأحدٍ - كائنا من كان - التشكيك في نوايا المواطنين. دون برهان :- {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}.
ثم إن العامة بحاجة إلى الموعظة الحسنة، وتَخَوُّلِ الأوقات المناسبة لها، وليست بحاجة أى كشف السوءات، وتتبع العورات، وافتراء الاتهامات، وتصنيف الغافلين الآمنين: {وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ}. {هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ}. {وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا}, وتلك زواجر متلاحقة: {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ}.
الكلمة الكاذبة كالرصاصة الطائشة. تلك تقتل السمعة، وهذه تزهق الأنفس.
ومع كل التفحش البادي للعيان, فإن الخيرية باقية. والشر كل الشر في بعض من يتصدرون المشاهد، وهم ناقصو عقل، ومعرفة، ومروءة، ودين.
مفكرون مَوْقِفِيُّون. وكتاب نبلاء. وإعلاميون شرفاء تَجْتَرُّ أعراضَهم رويبضات مهتاجة, لا تراعي في مؤمن إلًّا, ولا ذِمَّة .
والأشد سوءاً حين لا يعرف المجَدِّفون في الأعراض ذلك من أنفسهم، وفي أنفسهم. وهذا عين الجهل المركب.
مشاهدنا العربية تفيض بهذا الصنف. قنوات ضرار بالمئات, ومواقع سوء بالآلاف, يُنفق عليها شرار الخلق من قُوتِ شعوبهم (المليارات), لافتراء الكذب, وتشويه السمعة, وتفكيك التلاحم.
ومن عجب أن الكَذَبَةَ يرون أنفسهم مِثال الصدق، والتَّحَرِّي، وقَوْلِ الحق.
ما تشتهيه أنفس الموتورين، وتلذ به أعينهم الوقيعة بالأبرياء، وتشتيت الآراء, والحرص على إراقة الدماء، والتدابر, والتنابز. وتلك هي (السادية) في أبشع صورها.
وليس غريبًا وجود هذا الصنف في أوساط المجتمعات. إذ {كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ}.
حشرات لا تعيش إلا في المستنقعات الآسنة، وفراشات لا تجدها إلا في الزهور المتفتحة.
- فهل رأى أحد [صراصير] فوق الأزهار؟
- وهل رأى آخرون [فراشات] وسط المراحيض؟
تلك سنّة الله في خلقه و(كلٌّ مُيسَّر لما خلق له). وما نفعله من موعظة مع هؤلاء, وأضرابهم {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}.
مهمة العلماء، والدعاة، والإعلاميين، والتربويين، تضييق الخناق على هذا الصنف، وحشرهم في الزوايا الضيقة، وعدم التمكين لهم, فـ(حُبُّ الأذِيَّةِ مِنْ طِباع العَقْرَب).
فالشر بالأشرار قائم. ومن المتعذر اجتثاثه. وفي الحديث:- [إذ بُلْيِتُهْم بهذه القَاذُورَات فَاسْتَتِرُوا]
ولم يقل: [فأقلعوا]، لأنه يعرف أزلية الصراع بين الحق، والباطل. فالبلوى قائمة، والمطلوب الاستتار, وعدم إشاعة الفاحشة, والجهر بها.
الذين يجازفون في الأحكام, ويسرفون في الاتهام من أولئك المجاهرين الذين يستحقون إقامة الحدِّ عليهم . لأنهم بفعلهم يُقَدِّمون الأسوة السيئة. وإذ غلبتهم شقوتهم, فليعتمدوا الإطلاقات العامة, وعدم التخصيص, والتنصيص, والتشخيص.
حملة الأنفس الأمَّارة بالسوء, وعبدة الأهواء, وأَذِلَّا الشَّهوات منكشفون لا محالة:
[وَمَهْمَا تَكُنْ عِندَ اِمرِئٍ مِن خَليقَةٍ … وَإِنْ خَالَهَا تَخفى عَلَى النَّاسِ تُعلَمِ]
الدفاعُ عن حوزة الوطن واجبُ المقتدرين, والتصدي للحزبيين, والطائفيين المتعصبين, والمتدينين المتشددين مسؤولية النخب الواعية, ولكن بعض ما نسمعه, وما نراه, وما نقرؤه لا يمت لهذه الواجبات الشريفة بصلة.
وعلى كل الأحوال فالموعد الله:- (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ), ويُحصل ما في الصدور, ويَقْرأ كل مجازف ما كتبته يداه :- {اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}.
إنها مواجهة عَصِيْبَةٌ مع مؤلفك, فإما أن تقول:- {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ}. أو تقول :- {هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ}. فاختر الآن أحب الموقفين إليك.