كوثر الأربش
إننا على أعتاب مرحلة جديدة كليًا. نعرف هذا، ويعرفه العالم أيضًا. النساء سيقدن السيارات، المناهج الدراسية ستُغربل، دور السينما ستفتح أذرعتها لعشاق الأفلام. والكثير مما سيغيّر وجه حياتنا للأجمل والأكثر نفعًا. لكن ماذا عن الروح الخامدة في داخلنا؟
نعم، الأرواح المنطفئة كيف سنعيد تعبئتها بالوقود؟ إنني أتحدث عن الرغبة الجامحة للحياة، تلك التي أودعها الله فينا، وحاولوا خنقها عمدًا. حسنًا، سأتحدث بوضوح أكثر..
الحكاية بدأت منذ أن اشتدت قبضة المتشدّدين على مجتمعاتنا، مساجدنا، مدارسنا، وإعلامنا.. وقلوبنا أيضًا. وقتها، سوّقوا علينا تذاكر مباشرة للموت. وجعلونا نبغض الحياة. سموا الجمال والطموح والشغف والحب والحرية والموسيقى واللعب والرقص..لقد سموا كل هذا بأسماء تروقهم. سموها، دنيوية، أو غفلة، أو لهو وعبث. أي اسم يجعلك نافرًا ومحتقرًا للجمال، للحياة. الحكاية بدأت عندما أراد السياسيون عزل الناس في دور العبادة والاستحواذ على الحياة، وجهوا رجال الدين المتشددين ليقولوا إننا خلقنا للموت، وبغضونا في كل شيء، حتى منظر الغروب! كلما كنتَ مهمومًا أسودَ كنت قريبًا للتقوى، هكذا خدعونا. في طفولتي، إحدى النساء في حينا القديم، كانت تسجد وتبكي وتقول لله: يا رب أخرج حب الدنيا من قلبي. كنت أعتقد أنها ارتكبت آثامًا ثقيلة. سألتُ والدتي، لماذا تبكي المرأة؟ قالت: لقد تجاوزت الخمسين، وما زالت تتزيَّن وتصبغ شعرها وتتأنق.. يالله! ما هذه الذنوب العظيمة؟! هؤلاء من سيبقون خارج حقول الحياة، بانتظار الموت البطيء، بل هم ميتون قبل الموت.. هؤلاء من سينشرون شتائمهم وأحكامهم على أحباب الحياة، لأنه تم تشويههم بقسوة. صدقوا دعاة الموت، صدقوا أنك حين تفرح وتغني أنك ستذهب مغلولاً لجهنم!
حقبة طويلة، طويلة جدًا، جعلوا الناس مومياءات بلا إحساس. كيف لنا مساعدتهم؟ إننا سنفتح دور سينما، لكن كيف نجعلهم يدخلون إليها؟ كيف نقنعهم أنهم حين يتجمّلون ويضحكون لن يصبحوا حطب جهنم؟ أفكر بهم، كيف ننقذهم من أنفسهم؟ كيف نفتح نافذة في الكهوف التي حبسوا أنفسهم فيها ونجعل الشمس تضيء هناك؟
الفكر الديني المتشدِّد لا يفهم أن الجمال ليس عبثًا، وأن الموسيقى والفن والرسم ضرورة حياة، وأنها لا تنافي التقوى. لهذا أحرق الإخوان المسلمون في السبعينات الميلادية محلات بيع الكاسيتات ودور السينما في مصر. لهذا حطّم أفراد داعش المنحوتات الفنية وأعدموا الفنانين. مثلهم الإيرانيون، منذ اندلاع الثورة الإيرانية عام 1979م، كان مشهد حرق صالات السينما في طهران خلال الأيام الأولى للثورة شاهداً على أن الفكر المتشدِّد بكل أشكاله، خصم شرس للحياة.
لتفكيك تلك المفاهيم المغلوطة، وإزالة التعقيد بين معنى أن تكون حيًا ومعنى أن تكون مذنباً، علينا أن نتعمّق للجذور، لأعمق نقطة في وجدانهم، نسقي الورود الذابلة ونفتح الأقفال الصدئة. إن هذا لن يحدث بين يوم وليلة، ولن يحدث بالمصادمة والإجبار. لكن بالتجربة. علينا أن نجعلهم يجربون. كاظم الساهر، قال مرة في لقاء تلفزيوني: «كانت عائلتي متشدِّدة، قالوا لي إن هناك جنياً يعيش في داخل العود، وإنك حين تعزف على الوتر سيخرج ويخيفك. كان يموت خوفًا كلما رأى آلة العود في مكان ما، حتى جرّب مرة، احتضنه برهبة، وحرك الوتر، يقول: انتظرت خروج الجني وكان قلبي يخفق بقوة.. لكن الجني لم يخرج»
يقول الإسباني الحائز على نوبل في الأدب: ماريو فارغاس يوسا:
«كان بورخيس ينزعج كثيرًا كلما سُئل: ما هي فائدة الأدب؟ كان يبدو له هذا السؤال غبيًا لدرجة أنه يود أن يجاوب بأنه «لا أحد يسأل عن فائدة تغريد الكناري، أو منظر غروب شمس جميل» إذا وُجد الجمال، وإذا استطاع هؤلاء ولو للحظة أن يجعلوا هذا العالم أقل قبحًا وحزنًا، أليس من السخف أن نبحث عن مبرر عملي؟»