د.عبدالله البريدي
هل تعي القرية - أي قرية - ذاتها؟ هل تعي القرية بأنها: كبيرة وهي تحافظ على ضآلتها، عميقة وهي تلوذ ببساطتها، جميلة وهي تعتز بتقليديتها، غنية وهي تكتنز بقناعتها ؟ هل تعي القرية بأن أختها الكبرى (المدينة) تحسدها وإن ندت سخرية منها في سياقات التجشّع المادي والتربّح الاستثماري؟
رياح العولمة والسلعنة والسوقنة تهب عليكِ أيتها القرية الحبيبة، مما يدفعني إلى تذكيرك بشيء من مجدك وسموك؛ كي لا تنجرفي أو تتزحزحي أو تتقهقري، ولتأذني لي بأن أتجسد مرآة، لأعكس شيئاً من بهائك وصفائك، قاطفاً باقة ورد من بساتينك الزاهية، فهي منك وإليك - إذن - فأنا لست سوى المرآة والمقص. وليكن ذلك منجماً في فقرات متتالية، بحسب السمات التي أوردتها آنفاً:
(1) أنتِ أيتها القرية، تكبرين مع أنك معتدلة في نمو قامتك الجغرافية. إنك تكبرين يا سيدتي في سجلات التاريخ، وتتمدين باسترخاء في أروقة الحياة الهادئة، وتظفرين بأعلى درجات السلم الجواني، وفي كل يوم ننبهر برشاقة قوامك الذي تبزين به أختك البدينة النزقة، ويدرك الكافة بأنك الأسنى.
(2) أنتِ أيتها القرية، تتعمقين مع أنك تتبسطين في كل شيء! إن عقلك الجمعي يدرك بعمق تحسدين عليه بأن البساطة هي الفردوس المفقود المنشود لكل المهرولين في مسارات الحياة العصرية، اللاهثين وراء: المهنة، والتجارة، والموضة، والمتعة العابرة؛ بتقنية سخيفة واستهلاكية ساذجة. كيف لا تتعمقين بحق وأنتِ تنجبين حشداً من النابغين: علماء ومفكرين وشعراء وروائيين، حيث نعموا بسمائك ومائك وهوائك، بعيداً عن الصخب والتشتت.
(3) أنتِ أيتها القرية، تتجملين سرمداً بردائك القروي وإرثك التقليدي. إنك تزدادين جاذبية كلما: تمسكت بفلاحتك وطينتك، ودجاجتك وماشيتك؛ وأوغلت في عفويتك الريفية وتلقائيتك البدوية؛ وتسلحت بلهجتك المحلية التي لا تؤمن بلغة بيضاء ولا بلغة سوداء؛ فتجرين بكل ذلك عربات ماضيك السحيق، بتراثه القصصي، الذي يجسد أخلاق النخوة والوفاء والنبل والتضحية والتعاضد في ملحمة سردية خالدة.
(4) أنتِ أيتها القرية، غنية بتزهدك وقناعتك الطوعية. صحيح أن مواردك تبدو محدودة في عيون أختك الجشعة، ولكنها موارد كافية متجددة. كيف لا تكونين موسرة، وأنتِ تملكين أسرار تجدد مواردك وشفرات استدامتها ونقل ما يكفي منها لأجيالك القادمة. كيف لا، وأنتِ تحنين على رحم هذه الأرض الولودة، فتريحينها سنة أو أزيد لتسعيد خصوبتها الأبدية. كيف لا تكونين ثرية، وأنتِ تعلّمين أبناءك فنون العمل الباكر والإنتاجية النظيفة والأخلاق الخضراء.
كل ما سبق قوله هو نزر يسير من جمالك وبهائك وسموك أيتها القرية المجيدة، ولكن على رسلكِ، هذا لا يعني أنكِ خلوُ من السلبيات والنقائص، ولكي أكون صادقاً معكِ، فسأذكر بعضاً من ذلك، مبدياً اقتراحات عملية للمعالجة:
(1) من سلبياتكِ أيتها القرية أنكِ تتكئين كثيراً على الثقافة الشفهية، فيقل فيك العمل التوثيقي، مع أنكِ تتوفرين على مواضيع مهمة تستحق التوثيق للأجيال الحاضرة والقادمة معاً. ومن ذلك، تاريخك وجغرافيتك، وربما الأهم من ذلك هو: سردياتك الأخلاقية وأدبياتك القيمية، فأبناؤك وأبناء أختك بحاجة ماسة إلى هذه السرديات والأدبيات، فلربما حفظتِ الخيرَ بين الناس بسبب نبل هذا الفلاح العجوز أو وفاء ذاك البدوي الشهم. جددي حياتكِ وأخلاقكِ أيتها القرية بالكتابة والتوثيق، وامنحي أبناءك ما يكفي من الدعم لتشجيعهم على ذلك، ولتصنعي من شجرك قلماً يُكتبُ به خلودك.
(2) من نقائصك أيتها القرية، أنكِ قد تعجين بفضول اجتماعي وربما بثرثرة لا طائل من ورائها. ومثل هذا السلوك ينجم في الغالب من قلة العمل وضعف استغلال الوقت بكد أو قراءة أو تأمل لدى طائفة من أبنائكِ وبناتكِ. وهل ثمة علاج أنجع من فلسفتي: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه»، و»ما أكل أحد طعاماً خير من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده» (حديثان نبويان كريمان)؟!
(3) من عيوبك أيتها القرية، أنكِ قد لا تطورين أعمالك ومشاريعك ولا تستفيدين من مخرجاتك ومنتجاتك كما ينبغي، فيحصل من جراء ذلك قدر من التبطل لبعض أبنائك، مما قد يدفعهم إلى اللجوء المهين إلى أختك العابسة اليابسة؛ التماساً لعمل أو طلباً لمساعدة. هنا، قد لا نجد أفضل لك من فلسفة «الاقتصاد الأخضر»، الذي يؤمّن قدراً من: التنمية المحسوبة، والإنتاجية الجيدة، والربحية المعقولة؛ مع حفاظه التام على البيئة وأنظمتها ومواردها وتنوعها الحيوي ونظارتها الدائمة.
لا عليكِ، فهذه الملاحظات يسيرة، لا تنقص قدرك ولا تكدر بهاءك، بل هي تأكيد لتميزك وانفتاحك وتواضعك، ونشدانك لتزكية: روحكِ وخلقكِ وتفكيركِ وعملكِ؛ على أنني أؤمن بأنكِ إن حافظتِ على ماهيتكِ المتجسدة في: التنقي والتبسط والتزهد والتجمل؛ فستكونين: ضمانة، وربما ملاذاً أخيراً؛ يحول دون سيناريو اطراد توحش المدينة وتقبحها وتسفلها وتسطحها وتشيئتها للإنسان وسلعنته. أنا لا أسكنك أيتها القرية ولكنني أقطنك!