«الجزيرة» - أحمد المغلوث:
كان الجو بارداً جداً في شنقهاي تلك الليلة وكان عائداً من المعرض الذي شارك فيه أحب أن يستمتع بمشاهدة شنقهاي في الليل ولكن يا الله. الصقيع يلسع وجهه ويتسبب في انسياب دموعه.. بسرعة دلف إلى داخل مطعم لا طلباً في الأكل وإنما للدفء.. رغم ملابسه الثقيلة والقفازات في يديه إلا أن البرد يتسلل إلى جسده من بين مسامات أقمشة ملابسه.. لم يشهد برداً بهذه الحدة طوال حياته.. يذكر قبل عقود عندما كان في السويد وشوارعها كانت مكسوة بطبقة كثيفة من الثلج.. كان الجو بارداً لكنه لطيفا ودوداً وكان مع زملائه يتمازحون برمي كرات الثلج على بعضهم بعض.. وهم في قمة السعادة والمرح.. الجالسون في المطعم الكبير رجالاً ونساءً يتضاحكون وهم يرددون النكات والأحاديث بلغتهم الصينية وهم يهزون رؤوسهم ومعها أجسادهم المختبئة تحت ستراتهم الثقيلة.. بالطبع هو لا يعرف من لغتهم شيئاً.. لكنه ومن خلال الحركات والإيماءات يعرف أنهم يتبادلون أشياء مضحكة.. وكان بالتالي يبتسم عندما يطالعه أحدهم أو ينظر إليه بل إنه كاد أكثر من مره أن يحول ابتساماته إلى ضحكات مجلجلة.. لكنه اكتفى بالابتسام.. لم يمض وقت طويل على جلوسه حول طاولته التي اختارها بجوار النافذة الكبيرة المطلة على الشارع الرئيس.. كان يتوسط الطاولة (قدر) يأخذ نصف الطاولة تقريباً به زيت يغلي..؟! وما هي إلا لحظات وجاءت نادلة المطعم وانحنت هاشة باشة بلغتها الصينية وهي تمد له (المنيو) ووقفت تنتظر مبتسمة.. ألقى على قائمة الطعام والتي كانت مصورة بصورة احترافية وبعد تردد اختار أنواعاً مختلفة من اللحوم البيضاء وبعض الخضار.. مضى وقت قليل وإذا بنادلة أخرى تحمل صينية كبيرة بها أطباق مختلفة من اللحوم والخضار الطازجة وضعتها حول القدر.. وراحت وهي تبتسم وبحركة لطيفة وخفيفة تشرح له بلغة إنجليزية واضحة كيف يقوم بإعداد وجبته بنفسه.. يتناول عصاتي الأكل ويلتقط بهما قطع اللحم والخضار ويغمسها في صلصلة خاصة وبعدها يضعها داخل الزيت.. وبعد فترة قصيرة يلتقطها من القدر ويعاود غمسها في صلصلة أخرى ويتناولها.. لم تتركه النادلة إلا بعد ما عرف كيف يطبخ وجبته بنفسه.. بعدها غادرت طاولته تودعها نظراته الشاكرة.. راح يكرر ما تعلمه فجأة سقطت منه إحدى العصاتين في القدر فتطاير رذاذ الزيت المغلي على أنفه.. فراح جاره يبتسم.. وانتقلت عدوى الابتسام إلى العديد من رواد المقهى المزدحم وما أكثر المقاهي المزدحمة في شقهاي، وشعر بالحرج كونه بات أشبه بمهرج بائس في مطعم رواده الكثر يتضاحكون من حركاته وايماءاته.. وراح يجاريهم الابتسام ولكن في صمت وبوده لو يستطيع أن يصرخ بأعلى صوته من لسعة الزيت الحار على أنفه رغم أنفه. تذكر لحظتها كيف بكى بحرقة عندما اقترب من موقد مطبخ بيتهم القديم عندما كان طفلاً صغيراً وكانت والدته تعد له فطوره بيض عيون. فتطايرت «رذاذة» زيت ولسعت وجهه فصرخ. صرخة رجع صداها مصطدماً ومرتداً بجدران رواق بيتهم. وأثارت الصرخة دجاجات البيت فتضاعف نقيقها كما أثارت اللسعة المؤلمة رواد هذا المطعم. وتمنى لحظتها لو سأل والدته هل الدجاجات تنقنق من أجل بيضها الذي كسرته في المغلاة أم حزناً على لسعة الرذاذة الزيتية لوجهه الطفولي؟.. تذكر ذلك وابتسم ولكن هذه المرة بدون ألم. وهو يمسح أرنبة أنفه الملسوعة بطرف منديل المطعم المزدان بالحروف الصينية الملتوية والمتشابكة.