إن التغيير هو الثابت، فكل شيء حولنا يمر بمرحلة تغيّر دائم، والمملكة كذلك تمر بمرحلة طفرة تغيير بقيادة حكيمة تؤمن بضرورة، بل حتمية التغيير حتى ننتقل إلى مصاف الدول المتطورة والأكثر إنتاجية. وعادة ما يكون جيل الشباب أكثر تقبلاً للتغيير من جيل الكبار. فجيل الشباب أكثر قابلية لتبني كل ما هو جديد ويمثّلون الأغلبية المبكرة في تقبل كل ما هو جديد، وأحياناً كثيرة يكونون هم المخترعين أو المبتكرين لهذا الجديد. فتعرضهم للطرق القديمة أقل من الجيل الأكبر كما أن آليات الأسلوب القديم أقل تجذراً منها عند الجيل الأكبر، مما يعني أن استعداد المملكة بشكل عام للتغيير أكبر من غيرها بمراحل كون غالبية السكان من الشباب فمتوسط عمر المواطن في المملكة يتراوح بين 25 إلى30 سنة مما يؤهلها لتبني كل ما هو جديد خاصة إن كان في مصلحة الوطن والمواطن. وقد أدركت القيادة الواعية أهمية العنصر الأساسي للتغيير وهو الإنسان، حيث ركَّزت على رأس المال البشري من خلال تفكيك الفكر التقليدي الذي كان سائداً في أجهزتنا الحكومية الذي كان يقصر دور شؤون الموظفين على الاستقطاب والفصل والإنذارات وهذا بدوره أدى إلى تحجيم الدور الفعلي للموارد البشرية وابتساره مما ساهم في ترهل هذه الأجهزة وعجز الكثير منها عن القيام بمهامها بالشكل الصحيح. وهذا ولّد فكرة إنشاء إدارات موارد بشرية متكاملة مشتقة من فعاليتها في القطاع الخاص خاصة الشركات الناجحة العالمية.
الموارد البشرية تهتم بالاستقطاب والاحتفاظ والتطوير. وليتسنى تحقيق ذلك وفق أطر صحيحة يتفق عليها جميع أطراف العملية فإنه يتحتم أن تكون هنالك شفافية كبيرة تتحدى التابوهات السائدة في فترة زمنية معينة وفي أروقة الكثير من أجهزتنا الحكومية. وحتى يستطيع الموظف الأداء بشكل فعَّال عليه أن يعرف ما المطلوب منه من حيث الكم والكيف وهذا لن يتحقق بجلسة عابرة، بل بتوثيق لهذه من خلال تحديد دقيق للمتطلبات الأساسية للوظيفة بشكل عام وبتحديد دقيق للأهداف المرجوة من الموظف وكيفية قياس نجاحها ومتى يتم قياسها. وبعيداً عن فلسفة قياس إدارة الأداء التي سادت في العقود الماضية وتبنتها الكثير من المنظمات على أنها تطبيق سنوي يتم تحقيقه ويتم توزيع المكافآت والزيادات على أساسه وتحويله إلى عمل لتطوير مستمر يبدأ ولا ينتهي وهذا ما بدأت الكثير من الشركات الناضجة باتباعه وعلى رأسها جي إي التي كان لها الفضل في انتشار تطبيقات إدارة الأداء في الأصل. وليتسنى فعلياً وضع الأهداف التي هي أساس نجاح أي منظمة فإنه من الضروري ربطها بالأهداف الإستراتيجية للدولة ودور هذا الجهاز في التنمية وتحقيق الأهداف الإستراتيجية السنوية منها وطويلة الأجل. إذاً لا يمكن وضع أهداف لإدارات أو وزارات بمعزل عن وضوح للأهداف الإستراتيجية للدولة بشكل عام وأن تتبنى القيادة هذه الأهداف وتعمل على تحقيقها. وهذا بدوره يقود إلى تحليل للعناصر الأخرى لإدارة الموارد البشرية. فبتحديد الأهداف الإستراتيجية للمنظمة والتي ستقسم إلى أهداف تفصيلية على إدارات وقطاعات المنظمة فإن ذلك سيساعد في تحديد الموارد البشرية التي ستحتاجها المنظمة بشكل أدق وكذلك طبيعة الكفاءات التي يجب استقطابها والوقت الذي يجب أن تشارك في العملية التنموية، إضافة إلى دقة في وضع الميزانيات التي ستحتاجها المنظمة لتحقيق هذه الأهداف وقد يبرز هنالك احتياج لبعض الخبرات لفترة مؤقتة نظراً لندرة هذه الكفاءات وارتفاع تكلفة استقطابها بشكل دائم وهنا يتم الاستعانة ببيوت الخبرة المتخصصة للمساعدة في تسريع تحقيق بعض المسؤوليات ككتابة سياسات أو إجراءات أو عمليات معينة. وطبعاً لا يمكن أن تستطيع منظمة بعينها أن تستقطب كفاءات لا تحتاج إلى تطوير سواء خلال الفترة الحالية أو القادمة نظراً لتسارع تشكّل المهارات وخروج مهارات أو أشكال متنوّعة من المهارات تحتاج إلى مواكبة حتى يستطيع الموظف الأداء بفعاية، وأكثرها وضوحاً هم متخصصو تقنية المعلومات؛ فهم وإن كانوا ذوي مهارات وقدرات عالية إلا أنهم عادة ما يحتاجون إلى تطوير مستمر؛ ففي كل فترة تخرج احتياجات معينة في المجال تجعله في تطور متسارع. والحال كذلك مع كيفية الاحتفاظ بتلك الكفاءات من خلال سياسات تعويضية عادلة، إضافة إلى توفير بيئة عمل صحية تستطيع الإبقاء على تلك الكفاءات لأطول وقت ممكن وبدرجة ارتباط عالية بالمنظمة ورضا كبير عمَّا يقومون به ومساهمتهم في تحقيق المنظمة لأهدافها. بعد هذه النبذة المختصرة جداً عن رأس المال البشري وتوجيهات القيادة بإنشائها في كافة قطاعات الدولة إلا أنني أرى أن هنالك خطوة كان الأولى القيام بها لتجنب أن يكون إنشاء هذه الإدارات شكلياً، كأن تقوم المنظمة بتغيير لوحة شؤون الموظفين إلى إدارة الموارد البشرية وعندما تتحدث إلى المسؤولين ترى إيماناً ضعيفاً بهذا التغيير قد يكون منطلقه ضعفاً في فهم ماهية هذا التغيير وما يرنو إليه خاصة ممن قضى فترة طويلة في نفس المنظمة فقد تعوّد على أساليب معينة في الأداء من الصعب تغيير قناعاته فيها. وهذا من وجهة نظري سببه ضعف التدريب على حيثيات التغيير وأهدافه ومتابعة التوعية إضافة إلى الرقابة اللصيقة. وحتى لا أكون سلبياً في الطرح فإنني سأختم هذا المقال بمقترح بسيط سيساعد حتماً على تجاوز هذه العقبة، يتمثَّل في إنشاء إدارة مركزية لرأس المال البشري ترجع لها جميع إدارات الموارد البشرية في كافة القطاعات الحكومية مما سيساعد على تنظيم العمل أولاً وتوحيد الجهود، وكذلك المشاركة بالدروس المستفادة بشكل دائم خاصة إذا ما أديرت كمشروع له بداية وله نهاية. يتخلّل ذلك إنشاء لإدارة تطوير الموارد البشرية تتضمن إدارة للتوجيه والإرشاد يتمحور دورها على توجيه القيادات في كل منظمة وتحديد مهاراتهم وتلك التي يفتقرون إليها أو تحتاج إلى تعزيز، هذا عدا عن التركيز على تطوير القيادات من خلال إشراك بيوت خبرة عالمية في تطوير القادة تتولى تسريع عملية التطوير للقيادات الإدارية. يجب أن تكون هذه الإدارات عبارة عن ورش عمل دائمة الانعقاد. فهنالك العديد ممن لم يفهم الرؤية بنفس الطريقة التي صيغت بها، ومنهم من يحتاج إلى تذكير دائم وتوعية مستمرة، فالتغيير لا يتم إلا من خلال برامج تغيير واضحة ذات أهداف محددة ومستمرة تتواءم مع كل مرحلة لضمان إلمام المنفذين التام بأبعاد الخطة والرؤية وإدراكهم للعقبات التيدتواجهها. يجب أن يكون هذا متوازياً مع مركزية إدارات الإشراف على تطبيق الرؤية التي يجب هي الأخرى أن تكون تابعة لإدارة مركزية تتبع للقيادة لضمان تطبيق كلي لعناصر الرؤية. ولضمان استمرارية العمل بنتائج الرؤية فلا بد للجميع أن يكون ملماً بتفاصيلها من جهة ومؤمناً بأنها ستساهم في نقلة نوعية للوطن بشكل عام. وهذا لن يتحقق دون إقامة ورش عمل دائمة يكون دورها تذكيرياً بعناصر الرؤية وما تحقق وما سيتحقق والدروس المستفادة والأخطاء التي ارتكبت وكيفية تلافيها بحيث يتم إشراك ذوي العلاقة بكافة عناصر التطبيق وجوانبه الإيجابية والسلبية وفرص التطوير. وبعد أن يتم تحقيق الرؤية وترجمتها إلى واقع معيش يمكن تحويل هذه الإدارات إلى قطاعاتها لتساهم في المحافظة على مكتسبات الرؤية وتطويرها وتنميتها.
وفي الختام أتمنى أن تتضافر الجهود لإنجاح هذا المشروع الذي ستكون انعكاساته إيجابية علينا جميعاً.
** **
- مستشار إداري وتنمية موارد بشرية