أسلفنا أن الفيلسوف الأسكتلندي وليام ديفيد روس (1877- 1971م) قد انتقد التجريد في قانون كانط الأخلاقي وعدم مراعاته لاختلاف الظروف والأحوال. وكذلك مر بنا انتقاد برتراند رسل للصعوبة المنطقية التي تعترض نظرية كانط من جراء تعارض أكثر من واجب أخلاقي في آن واحد. ومن أجل ذلك يقترح روس لحل هذا الإشكال تحديد سبع سمات إن توفرت في أمرٍ ما أصبح واجباً مبدئياً، ويُسمي الأمر الذي تتوافر فيه هذه السمات واجباً للوهلة الأولى (Prima Facie Duty) أو واجباً مشروطاً (Conditional Duty) وخلاصة رأيه أنها واجبات لها الأولوية مبدئياً ويقول مبدئياً لأنَّ واجب الوهلة الأولى ربما تعارض مع واجب أخلاقي آخر أكثر منه إلحاحاً مما يسمح بتجاهل واجب الوهلة الأولى لمصلحة الواجب الآخر حسب موازنة الشخص لكلا الواجبين ومناسبتهما للظرف والحال، فمثلاً عندما تعطي وعداً لشخص في وقت معين، وقبل حلوله بقليل، يتصل بك صديقك طالباً مرافقته في نزهة، فإن واجب الوهلة الأولى (الوفاء بالوعد) هو المقدم. لكن لو اتصل هذا الصديق سائلاً المساعدة العاجلة لنقله إلى المستشفى فلا بأس من نقض الوعد الأول لأن ذلك أكثر إلحاحاً من الخروج في نزهة مع صديق.
وروس يؤكد أننا لن نشعر بالعار هنا نتيجة إخلافنا الوعد في مثل هذه الحالات لأننا ننوي في داخلنا التعويض عن الوعد المخلف. وهدف روس هنا بشكل عام التفريق بين الواجب الكانطي المجرد الذي لا يراعي الظروف والأحوال وبين ما يبدو لنا واجباً أخلاقياً للوهلة الأولى، وهو كذلك، مالم يعترضه واجب أكثر إلحاحاً منه.
وواجبات الوهلة الأولى عند روس هي: واجب الوفاء الناتج عن فعل سابق وهو قسمان: واجب الوفاء بالوعد المضمر أو المصرح به وواجب التكفير عن خطأ سابق، وكذلك واجب الامتنان وواجب العدل وواجب الإحسان بالإضافة إلى واجب التحسين الذاتي وأخيراً واجب عدم إلحاق الضرر بالآخرين. هذه الواجبات هي عند روس (Self-evident) إذْ يشهد بصحتها الحدس ولا تحتاج إلى إثبات دليل أو تجربة. ولا يقترح روس لها ترتيباً معيناً مما جعله هدفاً للنقد، لكنه يرى أن فيصل ذلك هو الظرف والحال الذي يملي على الإنسان ترجيح كفة بعضها على بعض عند التعارض، وهو -بزعمه- يفعل ذلك عامداً كي لا يقع في خطأ وضع قانون مطلق لجميع الحالات، وما على الإنسان في مثل تلك المواقف إلا أن يوازن بين خياراته المتاحة مراعياً ما يقتضيه الموقف ومستعيناً بما لديه من حدس أخلاقي.
لكنه -أي روس- وتحت وابل من النقد أقرَّ بأن بعض هذه الواجبات له الأولوية الدائمة على غيره، فواجب عدم إلحاق الضرر بالآخرين على سبيل المثال مُقدمٌ دائماً على واجب التحسين الذاتي. وقد اُعترض عليه كذلك بحصر الواجبات بسبعة، لكنه رد بعدم ادعائه الحصرية فلا بأس عنده من إضافة أو حذف بعضها! كما اعترض على أهلية بعض تلك الواجبات لاسيما واجب التحسين الذاتي: فهل الذهاب إلى النادي الرياضي مثلاً أو تعلم مهنة جديدة يرقى لأن يكون واجباً أخلاقياً بموازاة واجب العدل وواجب عدم إلحاق الضرر بالآخرين؟! ثم ماذا عن هذه التسمية الغريبة (Prima Facie Duties) وهل كان فعلا روس يتحدث عن واجبات أخلاقية للوهلة الأولى؟.. أم كان يتحدث -كما تقول شيلي كيغان- عن (Pro Tanto Reasons) أي أسباب مرجحة إلى حد ما لاختيار فعل معين وليس عن واجبات؟.. لكن بعض المدافعين عن روس يقولون إنه لم يقصد تقديم قائمة حصرية من الواجبات وإنما (Guidelines) أو قواعد إرشادية أخلاقية تعيننا في حال وجدنا تعارضاً ما بين بعض ما يجب علينا فعله. ولروس أيضاً محاولة لتحديد خيرية الفعل بشكل عام -فبرأيه- هناك أربعة أشياء هي خيرٌ في ذاتها (دوافع وليست غايات) إذا توفرت في الفعل أمكن منحه صفة الخيرية وهي: العدل، والمتعة، والمعرفة، والفضيلة. وحديثه عنها في رأيي مضطرب ويبدو أنه أراد اتخاذها أساساً للواجبات السبعة الآنفة الذكر مع أنه حاول أن يهذب منها فهو مثلاً عندما تحدث عن المتعة اشترط براءتها من النفع الشخصي، ولعل محاولته هذه نابعة من إرادته التفريق بين الفعل الصحيح والفعل الخير. فالفعل الصحيح (الوفاء بالوعد مثلاً) دون دافع ابتغاء الفضيلة لا يوصف برأيه بالخيرية وإنما بالصحة فقط، ومما يدعم ذلك أنه يرى أنه إنْ وُجِدَ عالَمان كلاهما يُطبق نفس القيم الأخلاقية لكن القاطنين في أحد العالميين واعون لدوافع أفعالهم النبيلة بينما يفعلها الآخرون في العالم الآخر اعتباطاً، فإن العالم الأول هو الأفضل.
ويقر روس من جهة أخرى بصعوبة تحديد الخيرية في الفعل أحياناً ويشبهها بعلم الجمال حيث تكون القصيدة مثلاً جميلة باعتبار معين وغير جميلة لاعتبار آخر. وبشكل عام لم تسلم نظرية روس في واجبات الوهلة الأولى بل ولا أغلب آرائه الأخلاقية الأخرى من الطعن والرد والانتقاد ولم يقصر هو كذلك في الرد على خصومه. وأياً يكن آل أمر، فمهما بدت نظريته في واجبات الوهلة الأولى غير ناضجة إلا أنها الأهم في حقل إسهامه الأخلاقي، ولاتزال تعد محاولة جريئة لحل معضلة كانط الأخلاقية.
- علي النهابي