د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
تؤمن بفكرةٍ ما فترةً طويلة، تجتهد في إثباتها، وتستميت في الدفاع عنها، وتقاتل من أجلها في كل حوار، وتحشد الأدلة والبراهين على صحتها، ثم تكتشف في لحظةٍ خاطفة -بعد كل هذه المعارك- أنك كنت مخطئاً منذ البداية، وأنَّ اعتقادك كان وهما، وأنَّ إيمانك باطلٌ من الأساس، حينها.. أيُّ شعورٍ يسيطر عليك؟ وما حجم الخيبة التي تعتري روحك؟ وكم من إصبع ندم ستعض؟ وكيف ستواجه نفسك قبل الآخرين؟ وهل ستجرؤ على الاعتراف بالخطأ؟ أم ستكابر وتبحث عن أعذار واهية؟ أم تنسحب بهدوء لا عليك ولا لك؟
توقفْ لحظةً عن الركض في هذه الحياة واسأل نفسك: كم فكرةً تؤمن بها؟ وكم حرباً خضتها لأجل إثباتها؟ وكم صديقاً خسرته بسببها؟ وكم قلماً أسلت حبره في سبيل الإقناع بها؟ ثم التقط أنفاسك وعاود السؤال: ماذا لو كنتَ مخطئاً بشأنها؟ ماذا لو كانت تلك الأفكار باطلةٌ ليس لها أساس من الصحة؟ ماذا لو اكتشفتَ بأنك كنتَ طوال تلك الفترة ظالماً، تنصر أفكارك المتهافتة على أفكار الآخرين الثابتة الصحيحة؟
يقول العز بن عبدالسلام: «كم من اعتقاد جزم المرء به، وبالغ في الإنكار على مخالفه، ثم تبين خطؤه وقبحه بعد الجزم بصوابه واستحسانه»، كنت أتأمل في هذه المقولة، وأنظر إلى حالنا في حواراتنا ونقاشاتنا في منصات التواصل، وإلى مقالاتنا ومؤلفاتنا وتصريحاتنا وجدالنا، وأراجع كيف يقاتل بعضهم في إثبات أفكاره، وكم يقضي من الوقت وهو يستدعي الدليل ويستحضر التاريخ ويحشد الأدلة حتى يقنع المخالف، حتى ليخيل إليَّ أن تلك الفكرة وحيٌ من الله إليه، وأنه رسولٌ مُكلَّفٌ بإثباتها وإقناع الآخرين بها. إنَّ التاريخ الإنساني مليءٌ بالأدلة والشواهد الثابتة على كثير من الأفكار التي ظلت ردحاً طويلاً من الزمن يُعتقد بصحتها ويُجزم بثباتها وصوابها، ثم يكشف الزمن عن خطئها وفسادها، ويتنبه الناس إلى بطلانها وتهافتها، بل لربما تعجبوا ممن آمن بها كيف آمن، وسخروا ممن قاتل لتأكيدها، وأشفقوا على مَن ضحَّى لأجل إثباتها.إني أجزم أنَّ كثيراً منا يحمل أفكاراً يدافع عنها دون أن يكون مقتنعاً بها تمام الاقتناع، ولربما كان عقله الباطن يعرف ما في فكرته من فساد وخطأ وخلوٍّ من أي معقولية أو منطقية، لكنه يستمر في الامتثال لأوامر عقله الآخر الذي يرى أنه ليس لصاحبه الحق في مراجعة هذه الفكرة، وأنَّ عليه الإيمان بها دون تدقيق أو تمحيص، وقد يكون سبب هذا عادات اجتماعية أو قبلية، أو معتقدات كان يفعلها الآباء والأجداد فيرى نفسه ملزماً بها، أو لمجرد إثبات الذات وترسيخ الحضور، أو خوفاً من التشمت وإثارة الشفقة، أو لأسباب أخرى تجعل المرء يقاتل لفكرته دون أن يكون لديه منطلق سليم ومنطق متين يعتمد عليه في تلك الصحة وذلك الثبات. إنَّ الإيمان بفكرة ما ومحاولة إقناع الآخرين بها ليس إشكالاً في حد ذاته، ولو لم يكن ذلك كذلك لما حصل الحوار وتلاقحت الأفكار، إنَّ الإشكال في نظري يتعين في ثلاثة أمور، الأول: أن تكون مؤمناً بفكرتك بقناعة تامة، حذراً من أن تخدع نفسك بها لأسباب خارجية، الثاني: أن تكون مترفقاً في تصدير فكرتك وإقناع الآخرين بها، وأن تكون منطقياً في عرضها، منفتحاً على آراء الآخرين، فتصغي إلى أفكارهم التي يقتنعون بها كما تقتنع أنت بفكرتك، وتعي تماماً أنَّ لديهم أدلتهم المقنعة كما أن لديك أدلتك المقنعة، الثالث: ألا تتردد أبدا في التراجع، ونقض الفكرة الباطلة، والاعتراف بالخطأ والتسرع، وإعلان الكفر بذلك الرأي فور أن يتبين لك خطؤه وقبحه وبطلانه.