المثال الأول نأخذه من الأفعال الدالة على الحركة في المكان أو في الفضاء، كفعل أبحر أو شرّق أو غرّب. يكون فعل أبحر مزيدا بحرف من الجذر بحر، وهو يتضمن في الآن نفسه مادة رحل أو سافر ومادة المكان الذي دخله الفاعل شأنه في ذلك شأن أصحر أي دخل الصحراء أو أَتهم أي دخل تهامة. ومن هذه الأفعال ما دلّ كما قلنا على الحركة وخصّص نوع الفضاء: تسلّق- تدحرج- غاص- غرق..., أو الحركة من فضاء إلى آخر: اخترق- اجتاز- مرق.
المثال الثاني نأخذه من الوصف المكاني البصري أو من فضاء الوصف القائم على الإدراك البصري، فصفات المكان التي يدركها البصر أو يُجيل فيها المتكلم النظر، ويحوّلها عبر الفضاء اللغوي والفضاء العاطفي في الدماغ إلى علامات لغوية من خلال الخطاب هي الصفات التي يُحيِّز بها المكان أو يعطي بها معنى لما يراه البصر مكوّنا رئيسا من مكونات الكلام البشري، لذلك عدّ أرسطو المكان إحدى المقولات العشر، فإدراك الموجودات في عامة القضايا التي يصنعها العقل البشري تتقاطع فيه أنساق معرفية مختلفة منها ما يرجع إلى أبعاد مكانية خاصة ومنها ما يعود إلى أبعاد فضائية بصورة عامة، وما تسمية الصرف العربي للمكان والزمان كليهما بالظرف إلا تعبيرا عن التحام المفهومين وتعبيرا عن دور هذين البعدين أو هاتين المقولتين في استيعاب الفكر البشري في وعاء فكري واحد، وما ينتجه من القضايا والتصورات ومن مظاهر الإدراك. فالمكان بهذا التعريف الفلسفي الجمالي هو الإطار الناظم أو المجال الذي يستوعب عمليات التفاعل بين الذات المتكلمة في أي موضوع من موضوعات الحياة والعالم المحيط بها من خلال إدراك اللغة المعبّرة عن المكان. والمكان بهذه النظرة أيضا هو إطار إدراكي أو خطاطة أو بنية ذهنية توجيهية تصاغ فيها المقولات اللغوية المختلفة. ومن هذه الأنساق ما هو مباشر كمقولة اسم المكان: مفعل: مورد- منهل- ملعب..., ومنها ما هو غير مباشر نجده في مظاهر الأفعال، وفي الصفات. وفي هذا المثال نأخذ نماذج تتقاطع فيها فنون التعبير وأشكال الثقافة والجمال من الألوان والظلال والأنوار، ومن الأبعاد الوصفية التي يستمدّها المتكلم وخاصة في الخطاب الأدبي من حقل الجمالية التشكيلية ومن تقنيات استعمال الأضواء في المسرح والسينما: فوصف غرفة بأنها بيضاء أو عالية السقف أو مُشرعة النوافذ والأبواب، أو ساطعة الإنارة، يمكن أن يسهم من حيث الرؤية السردية أو الوصفية في أي نمط من أنماط الخطاب في بناء موضوع (ثيمة) الانفتاح والسعادة والارتياح واتساع الأفق وارتخاء الذات المتلفظة بالوصف، ووضوح الرؤية وألق الأشياء، لأنّ الأبيض من الألوان قد يظهر حجم المكان أكبر وقد يُرينا فضاءاته أوسع، وإذا أُشرِب بالأصفر أو الأخضر أو بالفضي والذهبي من الألوان ازداد إشعاعا وبريقا وشفافية. واللون الأسود أو الغامق عامة يتلاءم والفضاءات المغلقة والضيقة والمنسدّة أو محدودة الشعاع، منكسرة الأفق، ورسم المكابالألوان الظلية الرمادية يوحي بدلالات التردد والغموض والشكّ والتحفظ أو التنازع بين الأبيض والأسود. وفي السياق نفسه يمكن أن نأخذ أمثلة من الوصف المكاني/ السمعي، ويستمدّ المتكلم هذا الوصف من تقاطع بين نوعين من المعارف الثقافية: معارف معجمية غير عالمة، وهي مرتبطة بثقافة إدراك المكان في تاريخ استعمال اللغة التي تسكن ألفاظها أُسَرٌ من الدلالات بينها نسب ومصاهرة، ومرتبطة أيضا بالكفايات التعبيرية في الذاكرة السمعية، (صوت بعيد– رجع الصدى- صوت قريب- صوت فردي- جماعي- صوت حادّ- منخفض- ضخم- رقيق- نسائي- رجالي- طفولي- حيوان بعينه- صوت النقش على النحاس- النسيج...) وهي جميعها ألوان صوتية أو طيف صوتي في الفضاء المحيط بالمتكلم المتفاعل معه في مقام التخاطب أو خارجه. وهذا المعجم ينمو بنموّ التجربة السمعية، ويمكن للتعليم أن يسهم في إثرائه من خلال الاختيارات النصية والصوتية المسجّلة والموجّهة والهادفة إلى إدماج ثقافة المكان في الذاكرة اللغوية والتعبيرية. وأما ثاني المعجمين فهو المعجم الثقافي والأدبي المكتسب بالتعليم وبالمطالعة وبالتواصل بين الأسر الثقافية، وبالانفتاح على جمالية المكان في التجارب التعبيرية حيث تتقاطع النصوص والتجارب والأشكال، ويمكننا في هذا المستوى من التحليل أن نتوسع في تفصيل درجات الطيف الفضائي، لكن هذا السياق لا يسمح بذلك. والحاصل أن الوصف السمعي للمكان شأنه في ذلك شأن الوصف البصري مكوّن رئيس من مكونات المخيال الجمالي عموما والأدبي خصوصا، ويتقاطع الوصف اللغوي في هذا السياق مع حقول معرفية أخرى منها الحقل الموسيقي الذي يبتكر المتخصصون فيه سلّم الأوصاف المستخدمة في الخطاب الواصف للأصوات في مجال الموسيقا والألحان والأناشيد والغناء (القرار- الجواب- الدوائر- البيضاء نصف الدائرة...).
أما المثال الثالث فهو ما يتقاطع فيه الوصف الهندسي واللغة الطبيعية، ويتطور فيه الإدراك البصري واللغوي ليصبح قادرا على استقراء الأشكال وربطها بالمقولات الفيزيائية والرياضية، فإذا كان البيت أو الجدار مائلا إلى الطول فإن الإدراك البصري بالوصف يضيف إلى فعل طال زيادة بثلاثة حروف من فعل استطال ويستعمل اسم الفاعل «مستطيل» أو «مستدير» أو يستعمل الأشكال الهندسية المكتسبة بالثقافة الرياضية كالمثلث، والمربع والمخروطي الشكل، وفي وصف الجغرافيين العرب لشكل الأرض يقولون هي مدوّرة ولكنها ليست صادقة الاستدارة. وفي هذا التقاطع تظهر حاجة اللغة إلى نوع من التراسل المعرفي أو من تعدد التخصصات لفهم الكفايات الإدراكية سواء في التعليم أو في الكتابة الإبداعية أو في النقد.
والمثال الرابع يظهر في الوصف العاطفي أو الرمزي، ولعله أثرى ألوان التلفظ على الإطلاق؛ لأنه يحوّل إدراك الأمكنة إلى علامات ذات قيمة سيميائية. وربما كان الوصف في هذا المستوى أقوى دلالة على ثراء التقاطع الثقافي في الخطاب وعمق الكفاية التواصلية التي تستعمل استعارية الفضاء في التخاطب، لأنه يحتاج إلى ثلاثة أنواع من ثقافة وصف المكان: ثقافة السجلات المكانية ذاتها وتعيينها من جهة، ومن جهة ثانية ثقافة المعاجم العاطفية الملائمة لتفاعل المتكلم وطيف المكان، ونوع ثالث في تلك السجلات المؤثثة للمكان كمعجم النبات والحجارة والتضاريس والمناخات والخصائص المعمارية للأمكنة والكائنات الحية والجامدة عموماً.
*****
للتواصل مع (باحثون)
bahithoun@gmail.com