أسقط مقالتي هذه على مجتمعاتنا العربية وما جاورها من مجتمعات متشابهة، نتشارك وإياها الظروف وطرائق التفكير ،اضافة الى التاريخ بكل ابعاده وأعبائه، والجغرافيا جديدها وقديمها ما كان وما أصبح . الثقافة وتسليعها وقبل ذلك صناعتها ،كلها أشياء مرهونة بظروف معينة، فالظرف التاريخي من أهم العوامل التى تدفع عجلة الثقافة، البعض يرى التاريخ وظروفه ودروبه شعلة تفجر الافكار وتستدعي الأحداث لتصنع بذرة ثقافية تنتج أشكالا مختلفة من صنوف الثقافة وضروبها. الخطاب الثقافي كمنتج رئيس لكل تلاقحات وتجاذبات الظروف التاريخية والاجتماعية والاقتصادية يظل هذا الخطاب أسيراً لكل ما سبق مع عدم تغافل الدور السياسي، والذي يعد هو الظرف الزماني والمكاني الذي تعالج فيه وله ومن خلاله كل تلك الظروف والأبعاد، فالسياسي يشكل بنفوذه الخطاب الثقافي ويحد منه ويعيد توجيهه تبعا لمرحلته ورحلته تبعا لزمانه ومكانه. والنتيجة ضروب مختلفة من الثقافة تتشكل وتكون لغة ولباسا، فنونا وحياة ،كل هذه الامور لم تكن قبل هذه الإرادة السياسية التى رعت هذا الخطاب وصدرته ليكون إطارها العام وفى بعض الأحيان شرعية وجودها وبقائها . حتى النخب بكل أشكالها تظل تابعة للظرف السياسي تدور فى فلكه وتنسجم مع ظواهره ،لتبقى أسيرة له فى حضورها وانتمائها وخلودها بين الناس .
يقال ان ضباط ثورة يوليو قد استحسنوا فكرة إقصاء ام كلثوم من الحياة العامة كونها كانت تمثل العهد البائد ،وبما انهم صناع المرحلة فان زمنهم يقتضي استئصال القديم البائد حتى ولو كان قمة مجيدة ككوكب الشرق .
أوقفت أغانيها فى الاذاعه ويقال انها شعرت بذلك أو أشعرت، وفي الحالتين اصبحت منذ تلك اللحظة جزأ من الماضي الذي يجب ان يذهب الى غير رجعة.
عادت ام كلثوم-بعد ذلك- بذات القرار السياسي السيادي الجديد، إلى الواجهة لتنضم الى النخبة ولتمجد العهد الجديد وتصونه وترعاه وتغني له بمناسبة وبدون مناسبة،كل ذلك يؤكد ان القرار السياسي وقبله الظرف التاريخي يعيدان تشكيل النخب، وبالتالي يتشكل الخطاب الجديد وفق ظروف المرحلة ومتطلباتها.
لا أؤمن بدور محوري مهم ومتفرد للمثقف ايا كان مستواه وتأثيره فى مجتمعاتنا العربية من خلال هذا الدور يستطيع ان يشكل حالة من الوعي او التأثير بمعزل عن سلطة تدعمه وتزيد من مساحة تأثيره ،والسبب ان المجتمعات العربية عاطفية، لا تقرأ ،تشكلها اللحظة، وتستفزها الصور السريعة المجتزأة والتى تعيد تشكيل وعيها وتزيد من عيها الفكري والثقافي وهنا تصبح النخب المزعومة أسيرة لحركة الشارع وغوغائه ودهمائه تنتظر اللحظة لتنضم الى الكاسب لتستمر معه وله الى أجل قريب او بعيد، المهم أن تبقى حاضرة فى المشهد النخبوي وما يرشح عنه ومنه وإليه. مخطئ من يظن ان النخب تصنع خطابا ثقافيا فالأفكار وأصحابها (النخب)، كالدكاكين فى سوق يؤمه الناس فيأخذون منه ويردون تبعا لمصالحهم وأذواقهم واحتياجاتهم . النخب مصطلح يسبغه بعض الفوقيين على انفسهم فى ظروف محددة وحرجة من تاريخ الامم ،لكنهم وحدهم لا يصنعون ثقافة ولا يشكلون خطابا بمنأى عن الظرف السياسي وصانعه، فهو من وجهة نظري أيقونة النخبة وصانع الثقافة ،به تبدأ وتكون ،واليه تمضي وتنتهي تبعا لبوصلة مصالحه واتجاهاتها المختلفة ،واحتياجاته المتعددة والمتغيرة.
- علي المطوع