د. خيرية السقاف
غاب طويلاً عن قريته، هناك حيث انخرط في نسيج المدينة الكبيرة وتأخر عنها، بل بالكاد يتذكر حواريها، وأزقتها الضيقة المتعرجة تفضي بعضها إلى بعض نحو بستانها الكبير
يستروح فيه عجائزها عند ذهابهم، وبعد إيابهم من الصلاة..
في المدينة الكبيرة هناك بنى بيتا منيفا، ذا بوابة ضخمة مذهبة صقيلة، يتأهب خلفها كلب شرس ابتاعه في إحدى رحلاته من متجر أوروبي شهير ببيع فصائل أصيلة، وثمينة من الكلاب، معروفة بالدفاع عن أصحابها، أطفاله تآلفوا معه، لا يعبأون بنباحه حين يصدر أي صوت وإن صدر عن عربة جواره، هناك في المدينة الكبيرة نسي طفولته، وذلك الشرم الذي تدلت به شفته السفلى حين رماه ابن الجيران بحجرة مدببة وهما يتعاركان على من يركب قبل الثاني حمار العم حمدان بائع الخضار الذي لم يكن في القرية أطيب من قلبه، ولا أكثر من يحب الأطفال غيره، وهو عائد من مدينة أوروبية أمضى في مصحتها وقتاً، خرج منها وشفته قد عادت لوضعها الطبيعي لا ثمة أثر فيها لما كان..
لم تعد قريته في ذهنه حين عُين مسؤولاً عن إدارة تعليم منطقة طفرت ملامحها القديمة، حيث مدرستان فيها تحت إدارته، عاد إليها وثمة ما يتحرك بداخله، لكنه ضل الطريق لداره،
وحين عرف موقعه القريب من مدرسته الأولى لم يرَ له أثراً، بينما المدرسة لا تزال في مكانها لكنها كبرت، تغيرت، تبددت تلك الرائحة التي لها.. تزفَّت الطريق إليها..
وفي جولته داخلها دلف إلى أحد فصولها الثانوية، فتوقف الدرس، أخذ المعلم يرحب به،
وبدهشة ارتسمت على وجه المعلم وهو يعرَّفه للطلاب، ذهبت عيناه تركزان نحو شفته!!..
بينما هو يحدث نفسه: إنه هو بشحمه ولحمه، جاري الذي تعاركنا أينا يركب حمار العم حمدان قبلاً!!..