عبدالعزيز السماري
سأكون لمرة واحدة في صفوف الذين يحرمون السفر إلى الخارج، وذلك للمحافظة على مؤشر معتدل في السعادة اليومية، فالانغلاق أحياناً مفيد في عدم ملاحظة الفرق بين التخطيط العمراني لمدننا وقرانا، وبين التخطيط العمراني في الدول التي تسابق العصر في تخطيط مساكنها وعمرانها.
من هذا المنطلق يبرز علم تخطيط المدن، وهو مجموعة من النظريات الهندسية التي ارتبطت بالثورة الصناعية في أوروبا، وتهدف إلى تطوير الوسائل، والطرق المستخدمة في تخطيط المدن من أجل إعادة بنائها، أو العمل على بناء مدنٍ جديدة صالحة للعيش البشريّ بعد الانتهاء من تنفيذ مخططاتها على أرض الواقع..
كان هذا العلم هو الغائب الأكبر في تنظيم المدن والقرى السعودية، وتُركت المهمة بكامل صلاحياتها إلى العقاري الذي بطريقة ما يحصل على الأرض الإقطاعية الخام، ثم يقوم بتخطيطها من أجل أكبر كمية من الموارد المالية، ولم يكن في مخطاطاته أي أثر لنظريات وتطبيقات التطوير العمراني، التي منها المرافق العامة والحدائق والمدارس والميادين والمساحات المخصصة للمطاعم والأسواق.
قد لا نحتاج إلى جمع أدلة أو تقديم البراهين على غياب هذا العلم النافع في البلاد، فما عليك أخي القارئ إلا أن تقود سيارتك إلى ضواحي المدن أو الأحياء الجديدة خارج المدن، أو إلى مداخل المدن من مختلف الجهات، أو إلى القرى المجاورة، وستجد هيمنة مطلقة للتخطيط التجاري على الأراضي المحيطة بالمدن القديمة، وغياب تام لعلوم التخطيط العمراني..
السؤال الذي يفرض نفسه ماذا كان دور البلديات في طغيان هذه العشوائية، ولماذا لم تُطبق علوم ونظريات التخطيط العمراني في البلاد، ولماذا لم تتحول تلك العلوم إلى أدوات ترفع من مستوى الحياة في المدن السعودية، ولماذا دوماً ما ينهزم هذا الفكر أمام الإخطبوط العقاري الذي كان يحول مساحات كبري حول المدينة إلى مربعات متلاصقة يفصلها سفلتة رديئة، ويدور حولها كيابل كهربائية معلقة في الهواء، ومكتب لبيع الأراضي في أول المشروع..
كان العامل الأكثر إثارة لهذه الفوضى العمرانية هو حصول البعض بطريقة ما على أراضٍ شاسعة في ضواحي المدن ومداخلها، وعادة يلجأ هذا المواطن للعقاري أو للشخص الذي يملك القدرة على بيع الأراضي بعد تخطيطها عشوائيًا، وبعد الحصول على المال يختفي العقاري المطور كما يُطلق عليه زوراً وبهتاناً، ويحدث هذا في ظل غياب كامل للبلدية..
بعد اختفاء العقاري تأتي البلدية لتجد المأساة بكامل هيئتها في الضاحية، فلا مرافق عامة ولا مخططات عمرانية تواكب نظريات التطوير العمراني الحديث..، وحينها تبرز علامات الاستفهام عند المشترين عمن اعتمد المخططات العشوائية في هذه الضواحي، ومن كان يملك القدرة على توزيع الأختام على المكاتب العقارية..
لذلك يجب التفتيش عن أولئك المستفيدين من تلك الحقبة التي أخرجت لنا أثرياء من نوع مختلف، وما هي الحلول لإعادة تلك الضواحي والأحياء إلى أن تكون مواكبة لآخر تطورات التخطيط العمراني، التي تجعل من المدن التابعة للمركز صالحة للعيش والسكن وتتمتع بمختلف مزايا السكن في المدينة..
تحتاج الخدمات البلدية إلى تغيير كامل في أدواتها وكوادرها وطريقة عملها، فالمنتج الحالي لخدماتها هو الفشل، ولعل السبب هي تلك المركزية المطلقة في أدائها، وغياب المحاسبة والمراقبة من قبل المجلس البلدي، الذي فشل في تقويم الخدمات البلدية، ويحتاج إلى تقويم آخر من أجل الوصول إلى الطريق الذي يؤدي إلى حيث المنتجات العمرانية المطورة كما نشاهدها كلما سافرنا إلى الخارج.