عبدالوهاب الفايز
في القرار الذي صدر عن مجلس الوزراء (الثلاثاء 10 رجب 1439) بخصوص إجازات موظفي الخدمة المدنية، ورد توجيه مهم استوقفني ولم أجده في قرارات سابقة، (وأرجو أن أكون مخطئاً لأن هدفنا تميز وكفاءة أداء مؤسسات التشريع)، والتوجيه هو لوزارة الخدمة المدنية وينص على أن تقوم الوزارة (بعد سنتين من تاريخ هذا القرار برفع تقييم «إلى مجلس الوزراء» لنتائج تطبيق ما ورد فيه).
هنا نرى أمراً إيجابياً يعكس تطور ذهنية وآليات الحكم، ويعنى أن عملية (صنع السياسات العامة) تنتقل إلى مرحلة جديدة في نظرتها لأهمية المشاكل أو المطالب الاجتماعية ومدى خطورتها، ومدى عدد المتأثرين بها، وخطورة نتائج عدم الاهتمام بها. والتوجيه بمراجعة تطبيق القرار نستخلص منه عدة أمور.
أولاً، يعكس هذا التوجيه تطور في أداء مؤسسات التشريع والتنظيم، وربما نأخذه كمؤشر على تواضع القطاع العام الذي عادة تتصف ذهنية العاملين فيه بـ (الاعتزاز بالمنجز)، ونزعة العظمة هذه تحتاج إلى المعالجة الواعية الحكيمة حتى لا تكون سببا يُصعِّب ويؤخر مسار التطوير والإصلاح، وحتى لا تؤثر القرارات غير الناضجة سلبيا على المستفيدين من خدمات القطاع العام، وبالتالي يكون سببا في ضعف المجتمعات والدول.
ثانياً، مثل هذا التوجيه يحمي القرارات الحكومية، التي تمس مصالح الناس وتؤثر على حياتهم، من: المدخلات غير الناضجة أو المتسرعة التي تأتي من أشخاص قد لا يُحسنوا تقدير الأمور، أو تنقصهم القدرة على الأخذ باحتمالات المستقبل، ولم يدربوا على تقدير وتحليل المخاطر حين صنع السياسات العامة.
ثالثاً، بعض القرارات التي تمس حياة الناس ربما تضعها لجان تشكلت بدون الأخذ بالاعتبار الشروط والمتطلبات الموضوعية التي تحكم القيادة والإدارة والمشاركة في النقاش. حينئذ قد يسيطر على الأفراد المشاركين فيها (حالة ذهنية واحدة)، أو تؤثر عليهم اعتبارات سياسية تفرض حالة المجاملة تحاشياً للصراع، فتنتهي الأمور بصياغة قرارات أو أنظمة تتسم بعدم النضج.
رابعاً، مراجعة تطبيق القرار لمعرفة أثره نراه ضروريا لأن هناك اعتبارات تخص (بيئة العمل) وأهمية تطويرها بالحوافز والمهارات التي تمكن العاملين من الإسهام الإيجابي. وهذا ضروري في حالة القطاع العام لدينا، فنحن أمامنا سنوات نحتاج فيها خدمات القطاع العام الذي سوف يبقى لسنوات طويلة المهيمن على معظم الخدمات الأساسية التي يحتاجها الناس. أيضا بيئة العمل المعاصرة سوف تشهد تطورات متسارعة نتيجة لتقدم التقنية الرقمية وتطبيقات اقتصاد المشاركة المتوقع أن تحدث تحولا كبيرا في مفهوم العمل المكتبي، وهذا يدعم ضرورة تطور التشريعات التي تحكم بيئة العمل وعدم جمودها.
خامساً، كذلك لا ننسى أن لدينا 70 % من السكان في عمر الشباب. هذا الجيل يحتاج إلى استيعاب احتياجاته الجديدة للإنتاج والعمل، ومعرفة كيف يرى الحوافز والدوافع للإنتاجية في بيئة عمل القطاع العام، فهذا الجيل يتشكل وعيه بصورة ربما لا تستوعبه نمطية وروح العمل في مكاتب القطاع العام.
سادساً، مراجعة القرارات الحكومية بعد تطبيقها يصبح ضرورة بالذات مع دخول (الشركات الاستشارية العالمية) إلى عملية صنع القرار والوطني. المعروف أن هذه الشركات تغفل عن الأبعاد الاجتماعية والسياسية في البيئة المحلية. بالإضافة إلى أن إداراتها، ولأجل تخفيف التكلفة عليهم، قد يستعينوا بالكوادر السعودية الشابة التي لا تملك الخبرة الكافية ولا العمق المعرفي الذي تحتاجه عملية صنع السياسات الحكومية. أمام كل هذه العوامل، نرى أن المراجعة ضرورية لتحري إشكالات التطبيق وتدارك مخاطرها على استقرار الجبهة الداخلية.
في تصوري أن اتجاه الحكومة إلى مراجعة القرارات التي تتخذها، بالذات التي (تمس شريحة واسعة من الناس) توجه إيجابي، ونرجو أن يكون (حالة ذهنية جديدة) تساعدنا لضمان عدم تحول القرارات والإجراءات الحكومية إلى مصدر للقلق والتوتر الاجتماعي. في السنوات الماضية شهدنا كيف تدخل ولي الأمر لإلغاء أو تعديل قرارات ترتب على تطبيقها آثار سلبية على الناس، والسبب عدم تكامل العناصر والمتطلبات الضرورية للقرار الحكومي، والإلغاء للقرارات أو التراجع عنها له تكلفته السياسية.
الذي يجب أن نقدره ونثني عليه هو أن لدينا (رجال دولة) تسعد حين ترى كيف يرتقون إلى روح المسؤولية والسمو فوق اعتبارات المصلحة الخاصة، وهذه حالة نفسية وفكرية ومهارة ضرورية حين التصدي لصياغة ومناقشة والتصويت على المشاريع والقرارات الوطنية. ليتنا نستفيد منهم، ولهذا حديث قادم.