د. حسن بن فهد الهويمل
عندما يقرأ الكَيِّسُ المُدِيْنُ لِنَفْسِهِ قول الباري:- {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ}،و{مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}، و{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ}، تأخذهُ رجفة الخوف من مزالق القلم، وعثرات اللسان. [وهل يَكُبُّ الناسَ على وجُوهِهِم في النَّارِ إلَّا حَصَائِدُ ألْسِنَتِهِمْ].
وكيف لا يَفْرَقُ العاقل, و[الكلمة] يقولها المجازف، لا يلقي لها بالاً، تهوي به سبعين خريفًا في النار.
ذلك بالنسبة لمن يُلْقِي الكلام على عواهنه. فكيف بمن يتعمد الإساءة لمن حوله، ويصرُّ على الافتراء، ويُقْدِمُ طائعاً مختاراً على القول الذي يُفَرِّق فيه بين المواطن، وعشيرته الأقربين. ويمهد بمجازفاته لتفكيك اللحمة الوطنية.
لا أحد ينكر أن كل شيءٍ عند الله بمقدار، وأن الله لم يُفَرِّطْ في شيء {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ}، و{وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ}.
فكل فعل بأمر الله, وتدبيره: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى}. في النهاية [كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهْ]. و{وَقُلِ اعْمَلُوا}، {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}.
و[القضاء، والقدر] المُحَيِّرَان سِرُّ الله في خلقه، كما يروى عن [ابن أبي طالب] رضي الله عنه، وأرضاه. ومن قاربهما بعقله المجرد ضل ضلالاً بعيداً.
من حق أي مستهدف، هو أو أيِّ عَزيزٍ لديه، بالوشاية، والتصنيف، والاستعداء، أن يرد الصائِل، وأن يأخذ على يد السفيه. {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}.
ما ندين الله به، ونعتقده في السر، والعلن، والخلوة، والحضور في ظل الفوضى, والحزبية، والطائفية، وتلونات الهويات.. أن أيَّ خطرٍ يتهدد أمن البلاد لا يَسَعُ المسلم السكوت عليه، ولا الإغماض فيه، وإن طال الضرر من نحب.
فالمواطن رجل أمن، ومن واجبه أخذ الحيطة، والحذر، وحفظ ثغرته التي يقف عليها. فكل عاقل مكلف يعد بالضرورة راعياً، وكل راعٍ مسؤول عما استرعاه الله عليه. والنابه المجرب على ثغرة من ثغور الوطن؛ ومن واجبه ألا يُؤْتَى وطنُه من قِبل ثَغْرتِهِ.
تلك مسلمة لا شية فيها، وأولوية لا سابقة عليها. ولاسيما في ظروف كتلك التي تعيشها أمتنا العربية.
الكثير من الناس لا يملك الحس الأمني، وليست لديه القدرة على قراءة الأشياء على ما هي عليه. ومن ثم يَسْتَغِلُّ الماكرون غفلته، وقد يجندونه من حيث لا يَحْتَسب.
والمنظمات الإرهابية، والطائفية، والحزبية، والعرقية المجندة هي الأخرى, تجد ضالتها في هذا الصنف المغفل من الناس، ومن ثم تستدرجهم من حيث لا يعلمون، وتحملهم على الإضرار بأنفسهم، وبوطنهم، وبأمتهم، سواء كانوا مَسَلَّحين يقتلون، أو كتَبَةً يفترون.
فالفتن تأتي متبرجة آخذة زينتها, أخَّاذةً غامضةً, حتى إذا حَزَّت إلى العظم عرفها البله, والمغفلون, ولكن بعد فوات الأوان.
وكم في السجون والمقابر من الرجال الجوف, الذين زَجَّت بهم عواطفهم الجياشة، وزل بهم إقدامهم الأهوج، وقضت عليهم تضحيتهم في سبيل شياطين الإنْس، وشطت بهم انتماءاتٌ, وتكتلاتٌ سياسية، أو فكرية، أو دينية، مَا أنزل الله بها من سلطان.
وسوادُ المتلقين لا يتثبتون, ولا يسألون أهل الذكر, ومن ثم يُسارعون فيما يضرهم. وتنقيةُ أفكارهم بَعْد عَطبها, وتلوثها من الرهانات الخاسرة, على سنن:-
(قد قِيل مَا قِيلَ إِنْ صِدْقاً, وإِنْ كَذِباً).
أمتنا العربية مدخولة، مستهدفة. والمُسْتدرَجُون من أبنائها يُنَفِّذون خطط الأعداء، ولعب الماكرين. والأشرار يَجْرون في مفاصلها - كما الشياطين - مجرى الدم.
لا شيءَ في وطني يصنع الإرهاب. ومن قال بشيء من ذلك أدان أمته, واستعدى عليها المستبد المتكبر. الإرهاب تصنعه المصالح، وتذكية الأهواء، ويُنَفِّذُه الأغبياءُ.
خبراء نفسيون، وعلماء اجتماعيون، ومهرة إعلاميون، ودعاة سوء لَسِنون على عتبات الفتن: مجندون، أو متطوعون، يَنْصِبُون الأحبولات لمغفلين، تجمعهم الطبلة, ويفرقهم السوط.
لقد دُمِّرت ممتلكات، وأزهقت أنفس، وأهلك حرث, ونسل, وفقد أمن، وعَمَّت الفوضى في أوساطٍ أهمَلَهَا أهلها, أو قصروا في إدارة أزمتها.
عالمنا العربي خيرُ مثال للجبهات المكشوفة، بل المهملة. وإذا أمكن إعادة البناء، بعد عودةٍ متأخرةٍ للوعي، فإنه من الصعب استلال الضغائن، والأحقاد التي جذرتها إراقة الدماء، وتضليل الأفكار، وجموح الأهواء، وتصنيف الناس: طائفياً وعرقياً، وتحويل الولاء الوطني إلى ولاءٍ طائفي، أو عرقِيٍّ.
كلُّ من ضاق ذرعاً بمخالفه مصابٌ بضيق العطن المذهبي، واستفحال التعصب الطائفي. وكلُّ من صَنَّفَ خصومه بالاسم, دون تثبت، أو استعدى عليهم السلطة دون دليل، فهو فظ غليظ القلب، قليل المعرفة, ناقص عقل, ودين, ومروءة.
وهم كمن ابتغوا الفتنة, وقلبوا للسَّمَّاعين الأمور:- {أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ}.
لقد ضاقوا بمجايليهم, ومحايثيهم, في حين أن القِمَّةَ تتسع لآلاف الناجحين، والنصَّ المفتوح يتسع لعدد من القراءات. والحياة تخفق بالقوادم, والخوافي، ولها مقاود كثيرة. والاختلاف المنضبط بقواعده، ومناهجه يمنح الأمة آفاقاً واسعة، تجول نخبُها في فضاءاتها.
لا خطر على الأمة من الاختلاف. الخطر من التقصير في إدارته، الخطر من هواجس التصفية للمخالف، الخطر في رعب التصنيف، وخطيئة الاستعداء، وصفاقة التهميش, وتجريح المُعيَّن.
المستخفون بالسمعة كالمستخفين بحياة المعصومين: مسلمين كانوا، أو غير مسلمين.
السمعة هي الحياة الإنسانية؛ ولهذا حث الإسلام على الستر، والتثبت, ونهى عن التجسس (وَمَنْ تَتَبَّعَ عَورَةَ أَخِيهِ المسلم تَتَبَّعَ الله عَوْرَتَه). وهذا الوعيد لا يشمل عيون ولي الأمر العادل؛ فقد اتخذ الرسول عيوناً.
العقلاء المجربون العالمون لا يُفسد الاختلاف ما بينهم من وُدّ، بل تزيد رغبتهم في الاختلاف.
والتشريع مرتبط بالتغليب، وليس بمحض الطهر، والنقاء. والعوالم ثلاثة: ملائكي, وإنساني, وشيطاني. وعالم الإنسان خليط من خيرية الملائكة, وشرية الشياطين.
فعند (مسلم) في (باب الرجاء):- (والذي نَفْسِي بِيَدِه لو لم تُذْنِبوا لذهبَ الله بكم, وجَاءَ بِقومٍ يُذْنِبون, فَيَسْتَغَفِرُون الله, فَيَغْفِرُ لهم).
الحياة خليط من المتناقضات. ونقاؤها من المستحيلات. والاختلاف المحسوب مصدر الثراء المعرفي، وسبيل التحرير، والتأصيل لكافة المعارف، والمسائل.
وكل مستمرئٍ لتجريح المُعيَّنِ يفقد الاستبراء, والتثبت. ومن أراد الحق فعليه بالقضايا, مجردة من ذويها, على سنن:- (مَالِي أَرَى أَقْوَاماً)؛ لأن تجريح الذوات ليس طريقاً لإحقاق الحق, إلا من كان عنده من الله برهان.
يتبع