د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
مرّ العالم بثورات علمية وصناعية متلاحقة بدأت من الثورة الصناعية الأولى في القرن الثامن عشر التي غيّرت معالم العالم بظهور مكائن البخار ثم التوسع في استخدام أنواع طاقة أخرى كالوقود الأحفوري ثم الذري. فعبر الإنسان المحيطات، وطار في الفضاء، وغاص في الماء، وتحول العالم لفسطاطين مُستعِمر يملك القنية ومُستعَمر يفتقد لها. تغيّر العالم كذلك اجتماعيًا ونفسيًا وظهرت علوم جديدة لإدارة المجتمعات كالاقتصاد، وعلم الاجتماع، وعلم النفس.
تلا ذلك، في بداية القرن العشرين، الثورة الرقمية التي أسهمت في التوسع في المعرفة كمًا ونوعًا، فظهرت الكمبيوترات، وزادت دقة الحسابات، واسُتبدل كثير من العمال بالروبوتات فتضخمت الثروات ومعها أعداد العاطلين عن العمل والفقراء، فظهرت لأول مرة نظريات اقتصادية لدعم العاطلين، وأخرى لمعالجة الفقر، وأصبح توفير الوظائف معياراً اقتصادياً أساسياً، وتطور اعتماد الاقتصاد العالمي على المعلومة وظهر ما سُمي بطرق المعلومات الرقمية السريعة التي تنقل المعرفة من مكان إلى آخر في كافة أرجاء العالم بشكل لحظي عبر الإنترنت، فتطور ما سُمى باقتصاد المعلومات: قوقول، التجارة الإلكترونية، وسائل الإعلام والإعلام الرقمية، وانتقلت التقنيات الصناعية القديمة إلى هوامش الدول الصناعية.
ونحن اليوم على أبواب ثورة أخطر من كل ما سبقها. ثورة تقودها أبحاث تركّزت على الدماغ وبقية الجهاز العصبي. فانتقل العلم من محاكاة الذكاء بالذكاء الصناعي إلى معرفة ماهية الذكاء وكيف يفكر الإنسان وغيره من الأمور التي تتحكم في سلوكه. فأجهزة رصد عمل الدماغ المتناهية الدقة، والأبحاث والتجارب على الجهاز العصبي قربت إلى علماء العلوم العصبية فهم آليات عمل الدماغ ربما بشكل شبه كامل، وبقي هناك أمران يستعصيان على الفهم: كيفية ارتباط الدماغ بالعقل والفكر، وكشف ماهية «الوعي الإنساني». وحتى في هذين المجالين حقق العلماء إنجازات مهمة تحتفظ بها الدول كأسرار علمية. فاكتشف العلماء أن الدماغ مكون من بلايين الموصلات العصبية التي تتواصل مع بعضها عبر نبضات كهربائية كيميائية، وحددت أماكن معينة في الدماغ تنشط لأداء مهمات عقلية معينة:الإحساس، التفكير، التذكر، أو تحريك بعض الأعضاء. وبتهييج بعض المراكز العصبية بموجات كهربائية ضعيفة تحاكي كهرباء الدماغ تم تحريك لا إرادي لبعض أعضاء الجسم.
وسمعت مؤخرًا عن قصة فتاة اسمها إيما أصابها العمى بعد حادث سير، فاستدعتها جامعة في نيوورك متخصصة في مساعدة العميان، وطلبوا منها القبول للخضوع لتجربة علمية فوافقت. البسوها نظارة غليضة تشبه النظارات الشمسية، وربطوا النظارة بقطعة صغيرة من معدن اليتانيوم وضعت على لسانها. القطعة، كما روت إيما، أحدث في اللسان حركة بسيطة تشبه ما تحدثه فقاعات البيبسي. ثم طلبوا منها أن تحاول رؤية ما أمامها، وبعد فترة وجيزة استطاعت تمييز خيال موزة في يد الطبيب. أخذوا إيما لشارع في نيويورك مزدحم وكانت تحس بالناس فيه يمرون من حولها دون رؤيتهم، وبعد تشغيل القرص على لسانها استطاعت رؤية الناس كلطخ سوداء وبيضاء تمر بها. فالنظر في الإنسان يعتمد على الدماغ وليس العين فقط، وربما سمعنا قريبًا عن أجهزة للرؤية تساعد الكثير من العميان.
الأخطر من هذا هو أن بعض العلماء يطمح في أن يتدخل في وعي الإنسان وحدسه بالطريقة ذاتها. فتم اختراع «صديري» به سبعين قرصاً صغيراً تحدث ذبذبات في أجزاء مختلفة من جسد لابسها تشبه تلك التي يحدثها القرص تحت لسان إيما. هذا الأقراص تتحرك بشكل متناغم يؤثّر على دماغ الإنسان بطرق مدروسة فتغيّر إحساسه وحدسه بالعالم من حوله. وطموحهم أن تنشط هذه الذبذبات دماغ لا بسها فتحذ لديه توقّع معين للطقس مبني على توقعات فعلية للطقس تمت برمجتها لتحدث التوقع ذاته في الدماغ. ويمكن أيضًا خالق حالة توقع لا شعوري لديه باتجاهات أسواق المال، أو التوجهات الاقتصادي العالمية كما يتوقّعها أفضل الخبراء. وقس على ذلك الكثير من الأمور التي تشغل بال الإنسان في حياته.
العلماء يتوقّعون أن الثورة العلمية القادمة ستأخذ هذا الاتجاه، فكما استطاع العلم فك الشفرة الوراثية للإنسان «الجينوم»، فقد يتوصلون لفك شيفرة الدماغ والجهاز العصبي للإنسان وعلى القارئ الكريم أن يتخيل التبعات التقنية المترتبة على ظهور أجهزة توجه سلوك الإنسان، وأخرى تتحكم في مزاجه أو عاطفته، أو أخرى تفكر عنه. لا شك أن ذلك سيغيّر حياة الإنسان على هذه الكون كما عهدناها، بما في ذلك أساليب الحياة، وتطور العلوم، وأشكال الاقتصاد. ويبقى السؤال الأهم هو هل ستوظّف هذا التقنيات سياسيًا واقتصاديًا كسابقاتها ليقسم العالم لفئتين، فئة تتحكم بهذه التقنية، وفئة أخرى تتحكم بها التقنية؟