يختبر الإنسان مقدار إنسانيته إذا وضع في أحنك الظروف، فمثلاً لو حدثت جريمة سطو غير متوقعة، وسيتم أخذ مجموعة من البشر كرهائن، في هذه اللحظة يتمنى كل فرد أن لا يكون رهينة، ويدعو من أعمق أعماق قلبه أنّ يتم أخذ أي شخص آخر، لينجو بنفسه، ويكون الضحية أحداً آخر.
يقول المخرج السويدي روبين أوستلاند: على مدى عدة سنوات حدثت سلسلة من عمليات السطو المسلح، والتي تقع عادةً في المراكز التجارية وسط العاصمة ستوكهولم، وهذا السطو يحدث على مرأى ومسمع من حضروا، ولكن لا أحد يتدخل، أو حتى يحاول أنّ يساعد، وبعدما أخبر عائلته بقصص السرقات، قال له والده: عندما كان يبلغ من العمر ست سنوات في أوائل الخمسينات الميلادية، كان والداه يربطان حول عنقه ورقة مكتوب عليها اسمه وعنوانه، وكان يذهب للعب في وسط ستوكهولم بمفرده، وإن حدث أي مكروه فمن الطبيعي والمتوقع أن أحد الرجال سيقوم بمساعدته، وبعد المساعدة سيعرف عنوانه واسمه.
يتغير مسار القيم الإنسانية في لحظات من التاريخ، فيتصور روبين أوستلاند أن التحول الاجتماعي المعاصر في أوروبا أدخلها في مرحلة تُختلطُّ فيها معاني القيم الإنسانية، وأصبح الأوروبيون وبدون أن يعرفوا لا يمتلكون أيّ مسؤولية اجتماعية، ولا يظهورن الثقة، فبالتالي نتج عن ذلك استمرار عمليات السطو لفترة زمينة طويلة.
السينما قادرة ببراعة على عرض الأفكار الصعبة، فما يقدمه روبين أوستلاند عبر فيلم: «المربع» أسئلة عميقة عن المجتمع، ويقدم فرصة للمتفرج في أن يتوقف ولو بشكل مؤقت من أن يكون جباناً، وأن يمتلك البصيرة النافذة كردة فعل صحيحة عند حدوث اللحظات المرعبة، فإذا اعتبرنا مساعدة الناس فضيلة، فما هو السبب في أن يتوقف أحدهم عن ممارسة ذلك؟.. يقول سقراط: «الفضيلة معرفة كل الشرور تنشأ من الجهل، فالإنسان الفاضل هو السعيد».
عدم المساعدة سببه الحقيقي الجهل، ولا يُقصد بالجهل الأميّة، وعدم القدرة على الكتابة، ولكن الجهل الحقيقي هو التحليل الخاطئ للأمور، فالمعرفة والتأمل التي يتحدث عنها سقراط هي الفهم الصحيح الذي يساعد كحافز ذاتي باطني في التغلب على المصاعب الخارجية.
في مفارقة سينمائية نشاهد متحف للفن المعاصر كخلفية للفيلم، ومركز للقصة، ولكن المتحف بذاته منفصل عن الواقع، فالفنون التي يعرضها المتحف لا ترتبط بما يحدث في العالم الحقيقي خارج حدود المتحف، فنجح المخرج بالسخرية من متاحف الفن المعاصر من جهة، والسخرية من طبيعة الإنسان المعاصر من جهة آخرى.
ففي لقطة بالمتحف، بصالة مزدحمة بالجمهور الذي يتنظر فناناً يقدم عرض أداء، يأتي صوت من خارج الصورة: « أنت الأن في مواجهة حيوان متوحش.. إذا أظهرت خوفك، فسيشعر بك الحيوان.. وإذا حاولت الهرب، فيسقبض عليك الحيوان». ثم يدخل شخص يجسد هيئة قرد متوحش، ويكون في بداية دخوله مضحك، ولكن تدريجياً يتحول لشيء مرعب، ويتحول إلى حيوان حقيقي، فما المتوقع من الجمهور كردة فعل؟ الجميع يتمنى أن لايكون ضحية هذا الحيوان المتوحش، وبعدما ذهب الخوف عن الجمهور، بدأ الاعتداء علية، وممارسة بشريتهم بكل وحشية.
ذُرْوة الإنسانية أنّ يجسد الإنسان صورة الحيوان، فيتحول إلى «إنساني» بشكل مفرط، وبدون أقنعة يتخفى بداخلها مقاوماً الطبيعة الجوهرية الباطنة للإنسان المعاصر.
نشاهد في أدب كافكا حدود الإنسان/الحيوان، والعكس، مثل «تقرير إلى الأكاديمية» والتي فيها يتصرف قرد تماماً كالبشر، فتستدعي الأكاديمية القرد ليتحدث عن تجربته الإنسانية. ونشاهد في أسطورة «حي بن يقظان» لابن الطفيل الإنسان الذي ترعرع مع الظبية، فأصبح حيواناً بالمطلق، في جسده وفي سلوكه وفي لغته وحتى في شهواته، فيحاول تدريجياً تغيير طبيعته ليثبت بشريته.
ختاماً نجح فيلم «المربع» في تحقيق غايته، وتذكيرنا بدورنا كبشر، وربط سؤال الأخلاق بعمق بالانفعالات، وحتى وإن لم تصيب الآخرين بأذى، ولم تقم بأي ردة فعل، تبقى النفس البشرية المعاصرة موقع احتقار.
- حسن الحجيلي