تنعم بيئتنا الأكاديمية في جامعاتنا بأساتذة يبقون في الذاكرة سلسلة من الركائز الأخلاقية والمعرفية، لا يزيدها تقدم المتلقي لها في السنِّ إلا اطمئنانا إلى أصالتها، وصدقها، وصحة المقدمات التي بُنيت عليها، وسلامة الأنموذج الذي احتذاها وجعلها إطارًا لاتصاله بمن حوله.
ولذلك يمكن لأي شخص أن يتأكد من صحة ما سبق عندما تأتي اللحظات الصادقة في الحياة الدنيا، وليس أصدق من لحظات انتقال الإنسان إلى الدار الآخرة؛ لأنها تمنح الناس فرصة للتعبير عن موقفهم من هذا المنتقل بما يعرفون من سيرته التي تركها وراءه، وهذا ما يحدث اليوم مع د. عبد العزيز الزير -رحمه الله- الذي لم يكن نبأ انتقاله إلى الرفيق الأعلى سهلا على الذين اتصلوا به في يوم من الأيام، وقد كنتُ أحد هؤلاء الذين تشرفوا بمصافحة أخلاقه الأصيلة، والاستفادة من سعة معارفه، والادخار من نصائحه التي يسعدني كثيرًا نقلها إلى الباحثين وطلبة العلم، وشداة المعرفة.
كانت أولى اللقاءات بالفقيد في محاضرات الأدب في عصر النهضة في المحاضرة الخامسة من محاضرات كلية اللغة العربية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وقد كانت (الدفعة) تتجاوز المائة طالب، ويعلم الجميع صعوبة ضبط هذا العدد الكبير، ولكن دخول الفقيد علينا متواضعًا مركزًا على عمله كانت أولى إشارات الجد والعناية بالمعرفة، والاهتمام بمصلحة الطالب، فوضع حقيبته، وأخرج منها قلمًا أحمر رسم به على السبورة خطًّا من يمينها إلى يسارها واضعًا تاريخ حملة نابليون في بداية الخط، ثم التفت إلينا، وأخرج جواله (الأخضر) قائلا: (أخرسوا الجوالات أو أحيلوها إلى الصامت)، وما زالت هذه العبارة العظيمة تطل على ذاكرتي من حين إلى حين؛ إذ إنها تمثِّل أدبًا لفظيًا في التواصل مع الطلاب يشير إلى ما يتمتع به الفقيد من احترام لمن حوله حتى وإن كان أقلَّ منه منزلة. كان الفقيد يواجه في دفعتنا تلك السنة عدَّة أمور، أولها وقت المحاضرة الذي لا يناسب قضية مهمة من قضايا الإنسان العربي المعاصر وهي قضية الأدب في عصر النهضة، فليس من المناسب أن يكون لهذه القضية محاضرات قليلة في فصل دراسي واحد، فضلا عن الوقت الذي تلقى فيه بعد صلاة الظهر حيث كانت الجامعة تعمل بنظام الجدول المدرسي الذي تبدأ المحاضرات فيه من السابعة والنصف حتى الواحدة والنصف بعد الظهر بشكل متواصل، وثاني ما يواجه الفقيد العدد الهائل في القاعة فهم يحتاجون إلى صرامة في الضبط، وشدة في تطبيق قوانين الهدوء، وآخر ما يواجه في دفعتنا أن يتوسط في تعامله مع الطلاب كلهم، وأن يمدّ خيوطه إلى الجميع، وقد تجاوز تلك العقبات بكل يسر وسهولة؛ لأنه استطاع أن يجعلنا نتعرف على شخصياتنا العلمية أثناء حواراته عن الأدب في عصر النهضة، وهذا ما أعنيه -سابقًا- من أنّ هذه القضية لم تأخذ حقها في الطرح الأكاديمي الجامعي؛ لأنها تتعلق بالتوجهات العالمية التي كان الإنسان العربي مسرحًا لبعض تطاحناتها على المستوى المادي والفكري.
كان يتحدث إلينا بكل ما يحمله من علم وأدب، يحوط ذلك كله برعاية تامة للمعلومة، ويحاول أن يذكرنا بالعربي الذي نحمله بين جوانحنا، ويريد أن يساعدنا على اكتشاف الأدب العربي من خلال تذوق النصوص، وفهم تراكيبها، والعناية بحرية الرأي مع حفظ حدود الأدب، ولم تكن المسائل العلمية شيئا خارجًا عن ذات الفقيد بل هي أساس روحه، ولستُ أبالغ إن قلتُ إنَ الفقيد كان أدبًا يتكلم، فليس في أستاذنا إلا الإخلاص للمهمة المعرفية، وكثيرًا ما كنا نحس بعظمتنا بين يديه.
وأذكر أنه في مقرر البحث لم يتركنا في مواجهة الموضوع الذي كلفنا بالكتابة فيه، بل كان يجتمع بنا ليستمع إلينا، ويضيف إلينا من معارفه ما لم نلتفت إليه، وهو في هذا كله مدرك لكل الأبعاد، ولكنه يأخذنا بما نستطيع، ولا يكلفنا ما يجهدنا. وقد اجتمعتُ به بعد أن انتهينا من البحث فوجدته قد قرأ البحث وذهب يناقشني في طريقة الكتابة، وكيفية المحافظة على المنهج، ولم يكن يظهر الأخطاء التي وقعتُ فيها بل يشير إلى ذلك من طرف خفي، وتوجني بعد أن انتهيتُ بوصية عظيمة يقول فيها: لتتمكن من الأدب والنقد عليك أن تقرأ الأعمال الأدبية ونقدها فقراءة الأدب وقراءة نقده جناحان للأديب لا يمكنه التحليق في سماء الأدب بغيرهما.
فرحم الله أستاذنا د. عبد العزيز الزير، وأجزل الله له المثوبة، وأكرمه كما أكرمنا بحسن خلقه، وسعة صدره، وأفاض على ذويه ومحبيه الصبر والأجر.
د. عوض بن إبراهيم العنزي - جامعة الحدود الشمالية
D.awad-ebrahim@hotmail.com