حوار - أحلام حادي
تصدر رواية الوصالي (أقدار البلدة الطيبة) الحائزة على جائزة حائل عام 2017م عن وعي مؤلفها بشروط الكتابة الإبداعية العميقة، ووظيفتها التنويرية وإدراكه في الوقت نفسه تعقيد الواقع المحلّي والعربي والحاجة المُلِحَّة للتثقيف لفهم الظواهر الغامضة التي تكتنفه.
وهي فريدة في بنيتها الفكرية والجمالية، تكشف عن جهد دؤوب في القراءة في حقول علمية ومعرفية مختلفة كعلم النفس الاجتماعي وعلم السموم والأمراض التماساً «لوضع أسس صلبة» يجدها المبدع ضرورية في بناء العمل السردي والمقالة على حدٍّ سواء، فجاءت في «بنية علمية» تتداخل فيها الأنواع الأدبية: السرد والمقالة العلمية، الشعر والأهازيج والأغاني الشعبية، وتتعدد الحوارية اللغوية بمستوياتها الفصيحة ولهجاتها العامية المختلفة.
وهي تصور رحلة وعي جيل وُلِدَ في الستينيات من القرن العشرين، وعاين في صباه إبّان السبعينيات بداية التحولات الاقتصادية والاجتماعية المُتسارعة الناجمة عن الطفرة البترولية المتزامنة مع أحداث قومية مصيرية (مد القومية الناصرية، حرب أكتوبر 1973م)، وأدرك في شيخوخته آثارها العميقة في بنيته النفسية والروحية.
بنية علمية تتمثل في اعتماد راويها الجامعي ذي التخصص العلمي (سمير) النظرية البيولوجية «العضوية» في تشكل النفط لتشكيل الرمز المركزي المتردد تسع مرات خلال الرواية (عين الحمأ وانتشار رائحته الكريهة: حمأ بئر الصرف الصحي في القرية، وحمأ النفط في السبعينيات، وما نجم عنهما من مصرع والد فيصل ومُعاونه اختناقاً بالغاز السام وهما يُنظفانه بعد طفحه وتلويثه فضاء القرية ومسجدها، واغتيال الملك فيصل بطل حرب أكتوبر على المستوى الوطني.
وتتمثل أيضاً في تفسيره العلمي لحادثة الموت تسمماً (بالغاز السام، أو الحقنة المُلوَّثة) تفسيراً يفضح الخلل في بنية التخلف الاجتماعي، وفي وصفه فضاء قريته بالجهاز الهضمي في جسم الإنسان، فمقبرتها في أقصى الغرب تُقابل منطقة الفم والبلعوم، وهي ملاذ (عيال المقابر) الخارجين على القيم الدينية والمجتمعية (مُحسن، والحنطي) وتُمثل فضاءها المُدنَّس. أما فضاؤها المُقدَّس فيمثله مسجد (أبي عثمان) ومدرسته الدينية، ويُقابل المعدة، ولئن كانت المقبرة في غرب القرية قد غدت حفرة من حفر جهنم، ففي بستان النخيل الكائن شرقاً جنة النعيم.
وبتأثير فوضوية التغيير وتسارعه وما أحدثه من انقلاب قِيَمِي لدى أهل (العُثمانية) يُدنَّس الفضاء المُقَدَّس، ويتحول ضريح الوليّ الصالح الذي ظل مخفياً تحت جدران المسجد عن أعين السلطة أمداً طويلاً إلى دورة للمياه بعد أن اجتاحته التوسعة وتغيَّرت أدوار الجماعة المُوكَلة به وآلت إدارة الوقف إلى الدولة.
هي رواية مدهشة في تماسك بنائها وتشكيلها الجمالي الفريد الذي يعبر عن رؤية مُرَكَّبة عميقة لتاريخ القرية الصغيرة الكائنة إلى الجنوب من شرق الجزيرة العربية، تمتزج فيها الإشراقة الروحية Epithany والاستنارة العقلية بالحقائق العلمية الراسخة، رؤية تُدَين فوضوية التغيير وما يُحدثه من انقلاب في القَيَم، يُدَنَّس معه المُقَدَّس، وتُغَيَّب مُتَطَلَّبات الروح الإنسانية، ولكنها تستشرف مستقبلاً يُبشِّر بخلاصٍ يستكنّ فيه المقدَّس في حنايا الصدور متأبياً على الاقتلاع ومتجذراً في موروث القرية.
أجريتُ حواري عن هذه الرواية مع مؤلفها عبدالله الوصالي بعد قراءتها قراءة فاحصة متأنية.
من متابعتي الرواية السعودية لاحظت تميز بعضها بحمولة معرفية، تدل على جهد الروائي في إعداد مادتها لترفد تجربتها الإبداعية وتشكيلها الجمالي. ومن نماذجها روايتك، فكم استغرق هذا الإنجاز المُدهش؟ وما طريقتك الخاصة في الكتابة الروائية؟ هل تجمع مادتها أولاً، ثم تكتبها، أم يتزامن جمعها وتشكيلها الجمالي؟
أنا كاتب مُقِلّ. هذا ليس أمرا متعمداً، وليس لدي تفسير محدد لذلك. هي جملة من الأسباب؛ قد يكون منها ظروف المعيشة، والوظيفة، والحرص على العمل الإبداعي الذي سأنتجه. وربما لهذا، وبسبب ندرة أعمالي، لم يتكوّن لدي نسق معين في كتابة الرواية، ولا يمكنني التباهي بذلك. لكن في الوقت نفسه أنا أعمل كلّ ما من شأنه وضع أسس صلبة للعمل سواء قصة أو رواية أو مقالة. والفكرة دائما تأتي أولاً مثل نقطة مطر في بركة ساكنة، تتسع دوائر أثرها مع التأمل. في الكتابة أنا بين الوعي بشروط الفن كصنعة وبين الإلهام، وفي الغالب يتزامن شكل النص جمالياً مع جمع المادة والقراءة المستمرة فيما يخدم العمل ذاته.
أذكر أن هذه الرواية استغرقني إنهاؤها ما يقارب ثلاث سنوات، تقلبَتْ خلالها أحداثُها وشخوصها في أكثر من حالة. ومرّت خلالها أوقات داخلني فيها شعور التخلي عن فكرتها لعدم جدواها. وأذكر أنه قد لاحظ بعضهم زيادة وزني خلال كتابتها لأني تركت ممارسة الرياضة.
تضافرُ الخيالي والعلمي خاصية جمالية فريدة في الرواية، إذ يقترن في صدر فصل من فصولها وافتتاحيتها اقتباسٌ من رواية (البحث عن الزمن الضائع) وخُلاصةُ مقال علمي، قرأه الراوي أثناء دراسته الجامعية عن قدرة حاسة الشم على إثارة الذاكرة الطفولية.
بداية عن أَيّ ترجمة طالعتَ رواية مارسيل بروست؟ وما عُنوان المقالة العلمية المُشار إليها؟ ولماذا ذكرتَهُما على الرغم من أنك تطرح رؤيةً للراوي مُغايرة لهما، يستمدها من تجربته الخاصة عن قُدرة الصورة المكانية على استدعاء الرائحة القديمة من الذاكرة بعد ثلاثة عقود من الزمن؟
أنا سعيد جداً بهذا السؤال القادر على تلمس بعض الجوانب التي أظنها مُمَيّزة لأقدار البلدة الطيبة. لا أخفيك خشيتي من عدم انتباه نقادنا لمقاربة البعد العلمي في الأعمال الأدبية، ذلك أن اهتمامهم في الغالب -وبسبب تكوينهم الأدبي- منقاد إلى تقاليد العمل النقدي الكلاسيكي للرواية كالبحث في اللغة، والمكان، والشخصيات دون الانتباه إلى توظيف العلمي المعرفي في السرد.
أما فيما يتعلق بالسؤال فهو مفخخ وذكي، يتوجه في الحقيقة إلى شخصيتين وكأنهما شخص واحد، أنا واحد منهما، وسأجيب عما يخصني، وهو الاقتباس من رواية (البحث عن الزمن الضائع) ففي الحقيقة كان احتكاكي بها عن طريق غير مباشر، فأنا لم أقرأ الرواية، لكني وظفت من روايته الاقتباس المُؤيَّد من البحث العلمي لأنفذ من خلاله إلى حقيقة علمية أخرى مفادها؛ أن الصورة الذهنية المستعادة بقوة تجلب معها عالـَمها بما فيه الرائحة. وظفت اقتباس بروست كجسر عبور مُمَهد لتذكر أحداث العثمانية السالفة التي انفتح عليها السرد بعد ذلك. أما سؤال البحث العلمي فيمكن أن يوجه إلى (سمير) لأنه في مجال روايته للسرد. لكن على أية حال ومنذ سنة 2004 باتت قدرة الرائحة على استدعاء الذاكرة حقيقة علمية ثابتة.
(مراوغة لطيفة عن ذكر عنوان المقالة المُهم لورقتي البحثية لاسيما أنك تُشبه (سميراً) بما كتبته في المقدمة)؟
حسنا إن كنت تصرين على ذلك، هو بحث نشر بعنوان (الرائحة تملك ذاكرتها الخاصة smell has its own memory) سنة 2004 في مركز الدراسات المتقدمة بمدينة أوسلو في النرويج، قامت به العالمة والمستشارة النفسانية ماريا لارسن. البحث وتجميع المادة باختلاف حقولها ثم صهرها في قالب جمالي رغم مشقتها إلا أنها ممتعة.
بربط مقدمتك للرواية بأحداثها وشخصياتها يستدل القارئ على امتزاج الخيالي بالواقعي «السِّيري» فيها، ويُدرك بعضَ ملامح الشبه بينكَ وبين الراوي الجامعي ذي التخصص العلمي (سمير)، وتَبَنِيَكَ رؤيتَه الإشراقيةَ المُدعَّمة بالأدلة الحسِّية التي تُجلِّي غموض الأحداث، وتستشرف المستقبل، هي رؤية خاصة -في رأيي- تمزج التصوّف الإشراقي والعلمية المادية.
فهل تعتقد بدورٍ تنويري لابد أن يضطلع به الروائي في عصرنا المأزُوم؟ أو ما وظيفة الكِتابة الإبداعية بصفة عامة من منظورك الخاص؟
يندرج هذا السؤال ضمن روح السؤال الذي قبله ثنائية (سمير- المؤلف) مستنداً إلى المقدمة الموقَّعة باسم المؤلف، وفي تلك المقدمة ذكرت أنني لا يمكنني الجزم أين ينتهي الواقع وأين يبدأ السرد؟ هناك تداخل بين الواقع والخيال في أي عمل روائي جيد، لكن العمل الروائي الجيد أيضاً هو ذلك الذي لا يمكِنُكَ من معرفة الحدود بين العالمين ببساطة ودون جهد، إنها لعبة الإيهام التي يقوم عليها العمل السردي، ويجب أن تستمر إلى النهاية كي ينجح العمل.
(سمير) القادم من منطقة العثمانية المتصوفة دينياً قد امتزجت روحه بالمعرفة العلمية، وأصبح قادراً على رؤية حقيقة الأحداث الصوفية التي اختزنها صغيراً، وإعادة تشكيل قناعاته. هذا يجرنا إلى وظيفة الروائي، فله دور تنويري طليعي مفترض وتبشيري بقيمٍ جمالية، إلا أن ذلك محكوم بضوابط فنية، تبتعد عن التقريرية والوعظ والمباشرة في طرح تلك القيم. وقبل كل شي يجب ألاَّ تطغى أي قيمة مهما عظُمَت على القيمة الجمالية التي تقدمها الرواية.
للوقائع التاريخية واليومية البسيطة أكثر من رواية وأكثر من تأويل، والحقيقة تغيب حتى عن أهل (العُثمانية) كموضع ضريح الوليّ الصالح الذي تم إخفاؤه عنهم وعن عيون السُلطة، واكتشفه الراوي عبر إشراقة روحية بين النوم واليقظة.
تعددية الراوية والتأويل وما ترتكز عليه من رؤية فلسفية للحقيقة النسبية، هل تمخضت عن فوضى الصراعات السياسية والحروب المُحتدمة في عالمنا وتعددية أصواتها المُتضاربة أم هي ثمرة تطور وعيك الجمالي؟
- واكبت كتابتي لـ(أقدار البلدة الطيبة) قراءتي المكثفة في الفكر والفلسفة، وربما وجد ذلك طريقه إلى الرواية على شكل أسئلة وجودية على لسان الشخصيات. حياتنا صاخبة مادية في كثير من جوانبها طاردة للتأمل، لكن الأوقات القليلة التي يتحقق فيها تجاوز المادية يتاح للروح الطفو مجدداً إلى السطح، ربما يكون ذلك إعادة صياغة لنظرية التحليل النفسي لفرويد، فأنا لا أستطيع تذكر كل مصادر قراءاتي الكثيرة وتحديدها. الأحلام والتأمل في أوقات السحر قناة خلفية يسلكها اللاوعي للمرور إلى السطح. لذا ليس غريباً أن الأديان كلها تدعو للتأمل في هدأة الليل حين تسكن عجلة الحياة المادية. والإدراك جزء غامض من كيان الإنسان الروحي، يأتي أحيانا دون مقدمات ظاهرة.
أما عن تعدد التأويل فهي عملية حرفية لإشراك القارئ في استكناه الحقيقة ووضعه في احتمالية وقوع الأمر من عدمه، وضعه في حالة نشطة من القلق اللذيذ. أذكر -للطرافة- بعد نهاية إحدى الأمسيات المتعلقة بالرواية ذاتها سألني أحدهم مستفسراً عن الحادثة التي حدثت في مقبرة العثمانية؛ هل بالفعل آذى محسنٌ فيصلا؟ وقبل أن أجيبه كان صوتٌ من خلفي يجيب: «لا، ذلك لم يحدث!»
أنقذني ذلك من التورط في الإجابة!
يُغاير تأريخك لقرية (العُثمانية) التاريخ الرسمي المُحتمل الذي قد تكتبه السُلطة السياسية لنظائرها، فأنت تُمجِّد قيمها الدينية التي تجعلها نموذجاً للمجتمع «التعاوني» الذي يتقاسم أفرادُه الثروة، وينأى عن الانزلاق في حربٍ ضد فئة مسلمة وإن كانت تأييداً للسلطة.
هل تنطلق في ذلك من مبدأ التسامح الديني أم الاعتقاد بنسبية الحقيقة؟
ليس في الأمر تمجيد لقيم دون قيم، وإنما وصف لحالة تاريخية لـ(العثمانية) التي ليس لها قدر من الحقيقة إلا بمقدار ما لها من الخيال. فإن كان في السرد ما يدل على أن (العثمانية) مجتمع تعاوني متسامح، ينأى بنفسه عن الولوغ في دماء الآخرين، فهذا ما لا أستطيع أن أنفيه أما قضية التاريخ في الرواية فهي إشكالية تواجه القارئ والكاتب على حد سواء. قضية الخلط بين الفني والتاريخي، بين ما يعلن عن نفسه كعامل تخيلي خاضع لمنظور صانعه وتصوراته، وما يعلن عن نفسه كتوثيق حقيقي وصفي لما حدث، وبالأخص حين ظهرت روايات معاصرة تمزج في حبكتها بين الحقلين مثل روايات أمين معلوف، واورهان باموك، ودان براون.
وقد واجهت شخصياً تلك الإشكالية أثناء كتابتي لـ(أقدار البلدة الطيبة) إلى أن اهتديت إلى كتاب (التخيل التاريخي) للناقد الكبير عبد الله إبراهيم، جعلني أتجاوز تلك الإشكالية. لا أريد أن ألخص ما قاله، فيمكن للمهتم الرجوع إليه. لكن ما يهم هنا هو وظيفة الحدث التاريخي في (العثمانية) من حيث أنه شَكَّلَ مِفْصَلًا مهماً وحيوياً في الرواية، أعطى الإيهام بحقيقة ما يجري، التاريخ هنا وسيلة لا غاية.
تتمتع الرواية بـ(حوارية لغوية)؛ وأعني بها تعددية لغوية في الأنواع الأدبية والمُستويات اللُغوية (فصيحةً، عامية، محلية وعربية) لتصوير الاختلاف في البِنى النفسية والأخلاقية للشخصيات، وتفاوتها الطبقي والتعليمي، فالراوي يسرد الرواية بلغة فصحى ذات صبغة علمية، وزميله شبه الأُمِّي (محسن) يحتفظ باللهجة العُثمانية الخاصة، ويُردد الأغاني الشعبية.
ولكن هذا النسق اللُغوي يتم خرقه عدة مرات بالتزامِ المدرس المصري لهجتَه، وتذبذبِ الشخصيات في حواراتها بين الفصحى والعامية، وأحياناً في الموقف واللحظة نفسها، فهل كان لذلك مبرراته الفنية؟
الحوار كعنصر من عناصر الرواية يجب توظيفه بدقة. في الأمثلة المذكورة كان الانتقال إلى اللهجة المحلية للشخصيات بشكل موجز وبالقدر الذي يفي بالغرض. فبطرف خفي كانت اللهجة على لسان السلطان تُنبئ بأصله، وكذلك على لسان أبناء (العثمانية)، ومدرسيهم من الجنسيات العربية التي أردت من ذلك المرور إلى خلفياتهم السياسية، فـ(رشدي) بدا قومياً ناصرياً. اللهجة العامية تعمق الحس بالمكان. وفي المناطق التي يتطلب فيها أن تروي إحدى تلك الشخصيات غير المثقفة سرداً طويلًا مثل حكاية (الحنطي)، أنَبْتُ الراوي عنه لسردها مع أفعال الاحتمالات.
(لا أنتقد العامية في حواراتهم، ولكن التذبذب بينها وبين الفُصحى، لماذا لم تجعلها كلها بالعامية لتُحافظ على النسق اللغوي الذي يؤدي وظائف فنية مُتعددة، أتفق معك عليها أم أنك لا ترى في ذلك خللاً فنياً؟)
لا أحبذ العامية، وأحب أن تسود الفصحى في العمل الأدبي، وقد أشرت فيما سبق إلى الغرض من توظيف العامية. مؤخرا وقد كنت أقرأ روايات القائمة القصيرة للبوكر، كان منها بعض الروايات التي استخدمت التكنيك ذاته في الحوارات؛ عامية في إطار فصيح يسود السرد. كانت الروايات لروائية ليبية نجوى بن شتوان ( زرايب العبيد)، ومصرية (في غرفة العنكبوت) لمحمد عبد النبي، و(أولاد الغيتو) للروائي اللبناني إلياس خوري. لقد أصبح هذا الأمر مقبولاً فنياً، فإيقاع اللهجة العامية في بعض المواقف أقدر على توصيل شعور اللحظة من الفصحى.
من هم الكتاب العرب والغربيين الذين أثروا فيك، وأسهموا في تطور كتابتك السردية؟
هذا سؤال يحتاج إلى إنعاش الذاكرة، لكني لا أعرف أي رائحة يجب أن أستخدم لتساعدني على ذلك! «مجرد طرفة في سياق حديثنا الجاد»، لكن بالفعل لا يمكنني وضع قائمة عن أهم ما قرأت وتأثيرها عليّ. قراءاتي حرة متنوعة المواضيع بما تعنيه كلمة متنوعة من معنى. أجد لذة ومتعة في التنقل بين العلوم والفلسفة والأدب على حد سواء، كما اكتشف روابط حقيقية وثيقة بينها أحيانا.
وحتى لا يبدو الأمر وكأنه استعراض أجوف لأسماء تكتظ بهم مكتبتي ومكتبات الآخرين لنترك الأسماء حتى يأتي ذكرها في سياق الحديث عن الموضوع. لا شك أني أدين لكتاب كثيرين لهم الفضل في إمتاعي وإدهاشي وتشكيل وعيي، بيد أني لا يمكنني وضع حد فاصل ودقيق بين تأثير هذا منهم أو ذاك. ليس في الأمر جحوداً، لكن حين يبدأ أحدنا القراءة لا يكون في وعيه هذا الأمر، ولا ينتبه لذلك إلا عندما يُسأل. أعتقد أن هذا أفضل فلكي تؤتي الخبرات القرائية وظيفتها يجب أن تمتزج ببعضها امتزاجاً يستعصي على الفصل. هذا لا يعني عدم تذكر تجربة قرائية معينة كان لها أثرها؛ فكتاب عالم الفضاء كارل ساجان (الكون) من أهم الكتب التي أثرت في وعيي بالحياة والكون، وكتاب الفرنسي ستيفان لاكروا (زمن الصحوة) في منحي القدرة على فهم واقعنا المحلي، وسلسة كتب مصطفى حجازي في منحي القدرة على تحليل الظواهر الاجتماعية الغامضة من حولنا. ومؤخرا قرأت سلسلة متواصلة من روايات الكاتب التركي أورهان باموق.
وأعود كلما استطعت للالتزام بنسق معين كنت قد فرضته على نفسي، وهو أن أقرأ كتابا بالغة الإنجليزية وآخر باللغة العربية من أجل الحفاظ على قدرتي على التواصل باللغتين. هذا الالتزام لا ينجح دائما بسبب اشتغالي على بعض المشروعات الأدبية التي تتطلب قراءات متواصلة وبحث في نفس اللغة.
تطور وعي الراوي عبر مرحلتَيْ الطفولة والشباب في القرية ورؤيته الصوفية يحملني على السؤال عن مدى تأثرك برواية (أيام الإنسان السبعة) للمصري عبد الحكيم قاسم؟
كلا، لم أقرأها، وأعرف أنه يفوتني الكثير من الإبداعات الجميلة، لكن من الذي لا يفوته؟
محلياً لست ملما بشكل وثيق بالإنتاج المحلي، لذا فلا يمكنني الحديث إلا عمن قرأت لهم. يأتي محمد حسن علوان في روايته الأخيرة (موت صغير) كنقلة نوعية له شخصياً وللرواية السعودية. أحببت الرواية، لا بد أنه بذل جهداً خارقاً في إخراجها.
وضمن إعدادي لمشروع أدبي عدت بعد عشر سنوات إلى قراءة رواية (الآخرون) لـ(صبا الحرز) رواية جميلة رغم عدم متانة خطها الدرامي وتوتره، وانحيازها الواضح لشاعرية اللغة على حساب الحبكة.
ديوان شعري لوردز وورث شفى جون ستيوارت مِلْ -باعترافه- من انهياره العصبي، ومنحه سعادة حقيقية دائمة، وللأدب في رأي الفيلسوف ريتشارد رورتي قدرة على تحويلنا من الداخل بتحريرنا من «عبادة الأنا» أو وهم الاكتفاء الذاتي، فهو يكشف بواطن الآخرين فيمكننا من فهمهم والتواصل معهم.
إلى أي مدى تتفق مع الرأي القائل بدور «علاجي» أو «إصلاحي» يضطلع به الأدب؟ ومن منظورك قاصاً ما الأهداف التي تتطلّع لتحقيقها من إبداعك السردي؟
ظهر في الآونة الأخيرة ما يسمى العلاج بالقراءة Reading therapy ورغم أنه أتيحت لي الفرصة في مقاربة أحد فصولها في جنوب أفريقيا، لكن لم يكن الوقت كافياً للإلمام بتفاصيل هذا الحقل الجديد. ومع ذلك فبالتجربة الشخصية والمتابعة أرى جليا أن القراءة لها دور نفسي مهم في تعزيز ثقة الإنسان بنفسه.
هذا في شأن القراءة بشكل عام والقراءة الأدبية أحرى وأجدر بتلك المهمة غير أن ذلك كله جزء من امتلاك المعرفة الي تمثل الهدف الأسمى. تنوع حقول القراءة هو الشيء الأكثر فائدة للذات البشرية. وللإجابة المباشرة على سؤالك؛ نعم للأدب دور علاجي وإصلاحي على المستويين الفردي والمجتمعي. لا يزعج الإنسان شيء قدر عدم الفهم وغموض الظواهر التي يصادفها في الحياة. المجتمعات غير المدركة لمحيطها الكوني مجتمعات قلقة، خائفة هنا نجد المعرفة المتأتية من القراءة تصبح أكثر إلحاحاً وضرورة لمجتمعاتنا النامية والمتخلفة في جميع جوانبها.
أما هدفي من الإبداع فإلى جانب إبداع حالة سردية جمالية تحمل نصوصي رسالة تواصلية بين ذاتي ككاتب والمتلقي في الجهة الأخرى. استخدام النص لنقل قناعاتي كإنسان للقارئ، مع اعترافي بنسبية صحة قناعاتي، أكتب لكي أتأكد من أن قناعاتي صحيحة أو ما إذا كنت محقاً، لذلك ترى القارئ يخرج من نصوصي بالأسئلة أكثر من الأجوبة أو الأحكام. ويعود الأمر لخلفية القارئ في فهمه لما وراء النص.
هاجس بطلك البحث عن الحقيقة المطلقة في عصر يزعم فيه الفلاسفة والمبدعون بنسبية الحقيقة وأن الحقيقة المطلقة محض خرافة، وبناءً على تلك الفلسفة يتباهى بعض مبدعينا بخلخلة إبداعهم للمسلّمات.
بمَ تفسر سيادتها في أدبنا الروائي خاصة ؟ وما هو رأيك في القضية بشكل عام؟
المسلمات كلمة فضفاضة. شخصياً لا أعرف كم بنداً يندرج تحتها! فهي مثل مفردة الثوابت، تخضع لأجندة الكثيرين حسب رغبتهم في توظيفها لهذا الغرض أو ذاك، وتتحرك عناصرها في سلم الأولويات حسب الجهة الت ي تمليها سياسية كانت أو دينية. تستغل السلط الأبوية المفردتين في تحجير الفكر وقمع حرية التفكير وتحرره. أتمنى أن يأتي ذلك اليوم التي يتم صياغة قائمة (المسلمات) لكن ذلك اليوم لن يأتي أبدا أتدرين لماذا؟ لأن السلطات الأبوية من صالحها أن يبقي الأمر شبحاً غير متجسد لبذر الشك والخوف من التفكير مما يعزز حالة الإعاقة الفكرية.
بطل الرواية كان يبحث عن الحقيقة فهل وجدها؟ بالطبع لا. لو وجد الإنسان الحقيقة لكف عن التطور. إن البحث عن الحقيقة هو أصل العلوم ودافعها الأول. البحث عن حقيقة الإنسان قاد إلى علم الحفريات. والبحث عن حقيقة أصل الحياة قاد إلى علم الحياة biogenesis وهو علم يختلف عن علم البيولوجي، والبحث عن أصل الكون قاد الى علم الفضاء. وكلّ ما نتمتع به الآن من تقنية هو نتيجة ذلك.
تخيلي لو أن الإنسان قنع بما قدمه له الأسلاف من أجوبة عن نفسه والكون كم ستكون حياتنا رتيبة وباعثة على الملل.
أما من جانب أدبنا الروائي فهو يرزح مثل غيره تحت ثقل التابو والخوف، لكنه مع ذلك يحقق بعض القيمة الإبداعية التي لا بأس بها. وشخصياً لا أحاكم العمل الفني والروائي من منظور انتهاكه لتلك المسلمة أو الثابت، بل مدى قدرته على توظيف ذلك جمالياً وكيفية تحقيقه.
تُطالعنا في الصحف دعواتٌ متكررة لتدريس الرواية المحلية في المرحلة الجامعية حيث الغياب المُطلق للجنس الروائي في أقسام اللغة العربية، وهي ثغرة منهجية «مُخزية» وفريدة لا نظير لها في دولة عربية.
بم تعلل غيابها والاحتفاء الكبير بها في المحافل الأدبية، وتحفيز مُبدعيها بالجوائز وأنت منهم؟ وبهذه المناسبة نبارك فوزك بجائزة أمير حائل سعود بن عبدالمحسن للرواية.
شكرا بداية للتهنئة سأعتمد على المعلومة التي أوردتها في السؤال عن (الغياب المُطلق للجنس الروائي في أقسام اللغة العربية،) فأنا ذو تخصص علمي فارقت الفصول الدراسية منذ مدة ليس بالقصيرة، وإذا كان الأمر كذلك فهي بالفعل كما وصفتها (ثغرة منهجية «مُخزية» وفريدة لا نظير لها في دولة عربية)
و هي واحدة من إشكالية التعلم الكثيرة لدينا، ووجود تحفيز تقوم بها جهات أخرى كوزارة الثقافة أو الأندية الأدبية بينما الوضع كما وصفت في التعليم يؤكد حالة عدم التنسيق بين الجهات المعنية بالشأن الثقافي في الدولة. بات ملحا وجود مشروع ثقافي يضم في طياته كل الجهات المسؤولة عن الشأن الثقافي من وزرة التعليم ووزارة الثقافة وغيرها من الكيانات الثقافية ذلت الصفة الاعتبارية.