ولكن الدراسات الإدراكية التي تتناول كيفيات اشتغال معمار المكان في الذاكرة اللغوية وحركته وهو يتحول بين الأبعاد المرجعية الحقيقية والمتخيّلة المختلفة لا تزال متواضعة، رغم حاجة المبدع أيامنا هذه إلى الانفتاح أكثر فأكثر على مصادر المعرفة الإنسانية العالمة والاجتماعية على السواء، وإلى ما يمكن أن نصطلح عليه بالتراسل المعرفي.
فهذه الدراسات لا تستند إلى مفهوم التقاطعات الثقافية التي تجمع بين ثقافة الألوان والأنوار وثقافة الهندسة المعمارية وثقافة الأشكال الرياضية، وثقافة الأبعاد الفيزيائية وثقافة الأصوات المؤثرة في مورفولوجيا المكان.
وهي تقاطعات غير خاصة بالأدب بل تحتاج إليها كافة الأنظمة الفنية الرمزية. ولا يختلف في هذه الحاجة المبدع في مجال الشعر عن سواه في مجالات السرد أو المسرح أو السينما أو الدراما التلفزيونية أو سرود تلفزيون الشارع أو غيرها من فنون التعبير. ولا محالة قد يكون الروائي أشد حاجة إلى ما سميته بالجغرافيا الروائية وهو كما ذكرنا أعلاه مفهوم يختلف عن مفهوم الحوارية الباختيني وإن اقترب منه؛ لأنه ينطلق من أسس الفكر الأدبي الإدراكي، ومن مفهوم الجغرافيا الشعرية. فالثقافة الروائية تحتاج إلى مرجعيات مختلفة في علم النفس والاجتماع والإناسة والكوريغرافيا وفنون الإدراك الحسي ومجال البيئة وفضاء المدينة وهندسة الفضاءات العمومية والخاصة. وفيما يليك زاوية نظر إلى أحد مكوّنات التقاطع الثقافي في الفكر الأدبي المنفتح على مفهوم التراسل المعرفي وهو مقولة طيف الظرف المكاني والزماني أو ظلال طيف الفضاء.
إنّ المكان مقولة من المقولات الأساس ضمن المقولات العشر عند أرسطو لأنه يمثّل أحد أطرزة التي ينظّم بها العقل البشري أركان العوالم ومكونات الوجود، ويُحيِّز بها عامة الموجودات. وهو من المقولات المؤثرة في إنتاج المعاجم اللغوية عموما وفي صياغة الأعراف اللغوية، وفي تنظيم أقسام الخطاب وتنمية موضوعاته بوجه خاص. وهو معيار التثبّت من درجات الإدراك النوعي في الذهن البشري: حجم الإدراك : الكلي والجزئي، مداه: القريب والبعيد، جهته: الأفقي والعمودي، الأمامي والخلفي، الأيمن والأيسر. وتتبوّأ شبكة المكان في جميع اللغات الطبيعية وعلومها وآدابها وفنونها منزلة مهمة من جهة الأعراف الاستعارية أولا، ومن جهة التعبير عن صلة الإدراك المكاني بالفكر والوجدان وتقويم الأشياء ثانيا، ومن جهة التعبير عن سيطرة الإنسان باللغة على المكان ثالثا. ففي خصوص الأعراف الاستعارية العربية التي يمكن أن يكتسب المبدع من خلالها إحساسا برؤية اللغة العربية للأشياء وقدرة على التلفظ بها في الوصف والتحييز يمكن أن نذكر نماذج من أسماء المكان الطبيعي الحاملة للرؤية الثقافية في مختلف أبعادها، ففي العربية كانت الأضداد منطلقا لصياغة المعاجم الاستعارية المتنوعة مثل الوعر والسهل، والقمة والقاعدة وأعلى الهرم وأسفله، والأساس والسقف. واستعمل المتكلم مثلا عبارة «مفازة» في عصور الخوف من الرحلة عبر المكان حين كان الفضاء الخارجي معاديا للإنسان، فوصفت العبارة «مفازة» نوع الأمكنة التي تمرّ منها القوافل وتكون من الأمكنة الخطرة التي يداهمهم فيها اللصوص أو الحيوانات المفترسة أو غير ذلك من المخاطر. وهي عادة مسالك وعرة تقع بين الجبال والمنخفضات والأودية، ويكون فيها المسافر في موقع يسهل معه أن تداهمه تلك المخاطر.
وقد استعارت اللغة من فعل فاز اسم مكان على وزن مفعلة مثل مغارة ومنارة ومأسدة، تيمّنا وتفاؤلا؛ لأنّ من يجتز ذلك المكان يكن قد فاز ونجا بنفسه. ولا يمكن بطبيعة الحال أن يترجم هذا الاسم إلى لغة أخرى ترجمةً تحافظ على ظلال الدلالة الاستعارية للكلمة أو دلالة التضمن. أما التعبير عن إدراك المكان فننظر فيه من خلال شبكة المفاهيم والمصطلحات المتشاكلة والدالة على رؤية المكان والتي لا يُفهم أحدها دون النظر إلى القطب كله أو إلى المجموعة برمّتها: ففي اللغة العربية جملة من الأسماء المتجاورة أو المتشاكلة في وصف المكان الصحراوي والفضاء الخالي ونذكر منها: الفيافي والقفار والبيداء والصحراء. إنّ عبارة صحراء كثيرا ما تترجم في الأنجليزية إلى (Desert) وفي الإسبانية إلى(Desierto) وفي الفرنسية إلى (Désert). وربما أهمل المترجم أحيانا أنّ عبارة (Desert) في اللغات الأوروبية الحديثة المنقول إليها ليست اسم مكان بعينه بل هي صفة لكل فضاء مقفر، ويمكن أن تنطبق الصفة على أي مكان خلا من مظاهر الحياة الطبيعية أو الاجتماعية، فهي لا تعني الصحراء في العربية بل تعني القفار. فالقفر والقفار والمقفر والقفراء في العربية هي كل فضاء خلا من الحياة أو الحركة أو نحوهما، فأنت تقول عدت إلى البيت فوجدته مقفرا، وتقول أقفرت المدينة من سكانها أي خلت، وفي اللغة الفرنسية فعل أقفر مشتق من ( Désert). ومن معانيه فرّ، ومن نعوته (Desertique) أي مقفر. أما الصحراء فهي فضاء أكثر دلالة على أقاليم بعينها، وهي ليست بالضرورة مقفرة بل إنّ فيها حياة عامرة يعمرها الإنسان وتحتفل بالنبات الصحراوي والواحات والوحوش وسائر الكائنات الحية، ولا يجوز أن ننعتها بمطلق القفر. وينطبق ما قلناه على عدد كبير من الكلمات المتشاكلة في الدلالة نذكر منها أيضا شبكة المعجم الدال على أمكنة السيول ومجاري المياه وفضاءاتها في اللغة العربية: فكثيرا ما يحدث الخطأ في فهم اسم مكان نظرا إلى انعدام التدريب على تأصيل الأمكنة وإدراكها في البيئة اللغوية والثقافية العربية، ويحدث الخلط بين الوادي والنهر فتستعمل عبارة الوادي مرادفا للنهر، والحال أنّ الوادي هو مجرى الماء الكبير بصرف النظر عن وجود الماء وسيلانه من عدمه، وبطن الوادي أو جوفه هو استعارة تصويرية جسدية دالة على جوفه، والوادي هو مجرى النهر لا النهر نفسه. ومن ثمة جاءت استعارة المكان في تسمية الجداول والأودية التي نستعلها في الكتابة وفي تقسيم الصفحات وترتيبها طوبوغرافيا، وهو من المصطلحات التي يكثر استعمالها في الرياضيات.
ومن النماذج التي يمكن أن نذكرها كذلك في سياق التلفظ بالمكان وإدراكه نظام الأفعال التي تتكون من نواة الفعل ومن الوجهة أو المظهر الذي يتجه نحوه في الحركة أو الحدث أو الاتصاف بصفة أو إنجاز عمل من الأعمال، فعامة الأفعال تتضمّن النواة الدالة على الفصوص المعجمية وتتضمّن أيضا المعنم أو الصفة الموجّهة لتلك الدلالة العامة من حيث كمها أو نوعها أو زمنها أو مكانها أو جهة من جهات الدلالة فيها. وقبل ذكر هذه النماذج نلاحظ أن الفعل بشكل عام يتضمن ما سميناه بالنواة والمظهر، وربما منح المظهرُ النواة المعجمية استعارة اتجاهية كقولك «طار» أي انطلق إلى أعلى أو «هوى» أي تحرّك إلى أسفل. ففعل «التهم» أو «ازدرد» مثلا يتضمّن نواة فعل أكل وهي نواة محايدة وقد أضفنا إليه صفة لتوجّه الفعل مثلا نحو الكم، أو نحو طريقة الأكل أو نحو زمن الأكل المتسم بالسرعة، أو لتوجيهه وجهة استعارية، وذلك بحسب التركيب النحوي والجوار الدلالي الذي يتلفظ به المتكلم. وإذا أردنا أن نرتّب أفعال الأكل في خطّ المعيش اليومي الإنساني منحناه صفة ثقافية بعد إذ كان في الأصل من أفعال الطبيعة والكائنات الحية كلها، وتقاطع بذلك الثقافي والطبيعي، فالإنسان يأكل وكذلك الحيوان وأنواع من النباتات اللاحمة، وعلى المجاز يمكن للكائنات غير العاقلة أن تأكل، ولكننا إذا رتّبنا أفعال الأكل في خطّ الزمن الأفقي ومنحناها جرعة من الثقافة أضفناها إلى الطبيعة واشتققنا أفعالا من قبيل أفطر وتغدّى وتعشّى وأضفنا إلى فعل «شرب» اتجاها إلى وصف الحال أو تحديد النوع فقلنا ترشّف وتجرّع. وإذا نظرنا في أفعال المكان وجهاتها كذلك -وهو موضوع بحثنا هذا- وجدنا أنها في أغلبها تقوم على تلفظ مزدوج يكون في كثير من الأحيان مرتبطا بإدراك المتكلم للمكان. وسنقدم خمسة أمثلة متكاملة في تحليل هذه الظاهرة التي لا يتناولها الدرس البنيوي في تعليم الأطفال والشباب على السواء إدراكَ المكان في الإيقاظ اللغوي وفي مستوى تعليم ثقافة المكان أو التقاطعات الثقافية في الحامل الأدبي، أو ثقافة إدراك المكان وتعليم التلفظ بالمكان أو التلفظ بالأعمال القولية الحاملة للتقاطعات الثقافية، ولا يعتني بها الباحثون في شعرية المكان أو قلما فعلوا ذلك.
- أ.د. صالح بن الهادي بن رمضان
للتواصل مع (باحثون)
bahithoun@gmail.com