عندما تضع تعريفاً لأي مفهوم كان يصبح مصطلحاً بالضرورة، لأن المفهوم واسع باتساع الوعي والتجربة الإنسانية، وبقدر ما توجد أبعاد مشتركة للمفهوم عند البشر، توجد أيضاً فروق ولو بسيطة حسب منشأ الفرد ومخزونه من التجربة الإنسانية. ولكن الحياة العملية لا يمكنها الاستمرار بالمفاهيم المتعددة بتعداد البشر، كما لا يمكنها الاستمرار أيضاً بدون الاعتماد على المفاهيم! ..ما العمل إذن؟
استطاع البشر حل هذه الإشكالية منذ بداية الحضارة، حيث يتعاملون مع بعضهم البعض بالمصطلح وليس بالمفهوم! فعندما تكون محظوظاً وتشتري أرضاً، لا تقيسها بالمسافات (المفاهيم) المربعة، إنما بالأمتار أو الأقدام أو الياردات (المصطلحات) المربعة، أي المسافات ذات الأبعاد المقررة لدى جزء أو جميع الناس، وليس بمفاهيم من حق كل فرد أن يستخدمها حسب رؤيته.
من حق كل فرد في هذه الدنيا أن يمتلك مفهومه للحرية، ولكن ليس من حقه أن يعتبر مفهومه الخاص مصطلحاً، أي أن المفهوم بإمكانه أن يكون فردياً والمصطلح لا بد أن يكون جماعياً بالتوافق وليس بالإكراه!
المصطلح والمفهوم كليهما ضرورة لا بد منها للتطور البشري المتسارع، والحداثة هي القول أو الفعل أو كليهما الذي يعطي زخماً لذلك التطور، وحرق المراحل ليس حداثة، بل تهور أو تطرف أو «سميه ما شئت»! أما محاولة لجم التطور وشدّه إلى الوراء فهو ليس تراث، إنما «تراثوية» أو رجعية أو «سمها ما شئت»! .. التراث هو تاريخ التجربة الحضارية، الذي يعطي تسجيلاً للصراع بين الحداثة والتراثوية أو بين الخير والشر أو «سميه ما شئت».
لكل حضارة تراثها، والتفاعل بين الحضارات تاريخياً وجغرافياً هو تراث بشري عام، وهو مليء بشواهد الصراع بين الحداثة العالمية والتراثوية العالمية، ولكن يبقى «مفهوم إنسان» هو الرابط بين الحداثيين والتراثويين! .. هل يمكن تحويل هذا «المفهوم» إلى «مصطلح»؟
إذا تناولنا تعريف القواميس: الإنسان حيوان ناطق، فهو لا يحدد إلا الناحية البيولوجية فقط ولا يشير إلى الناحية الإنسانية. ولكن التعريف الفلسفي يقول: الإنسان هو مجموع المكونات الاجتماعية! أي أن الإنسان ليس حيواناً فهو كائن اجتماعي، ويشير التعريف كذلك إلى الناحية التاريخية والجغرافية والأخلاقية والقانونية والدينية ...الخ. كما يحدد الأرضية «للمفاهيم والمصطلحات» التي تخص السلوك الإنساني، كالحرية والديمقراطية والحقوق والأخلاق والعرف الاجتماعي والشهامة والوطنية والتقدمية والعقلانية ...الخ. فكل هذه المفاهيم هي اجتماعية وإيجابية، وإذا فقدها فرد ما يصبح مشكوكاً في إنسانيته، لأن المفاهيم السلبية كالفساد والنذالة والاستبداد والإفقار والتجهيل وغسيل الأدمغة ...الخ تخدم النزعة الفردية، ولكنها لا تتحقق بدون مجتمع! فلا يجوز نزع الصفة الإنسانية عمن يمارسها!
عندما كنا صغاراً كانت هناك (حزورة) نداولها وهي: ما الفرق بين الإنسان والحيوان؟ ... والإجابة باعتقادنا في ذلك الوقت: الإنسان يأكل ليعيش والحيوان يعيش ليأكل!... ليس صحيحاً أن الحيوان يعيش ليأكل! فحتى المفترسات تحافظ على فرائسها ولا تقتل إلا الفريسة المريضة أو الضعيفة! ولكن ماذا تسمي فرداً يأكل بملعقة من ذهب وهو مستعد لإبادة البشرية كلها إذا تجرأ أحد وأراد أن يأكل مما تبقى من غذائه؟ .... «سمه ما شئت».
- د.عادل العلي