لا شيء خَـيـّرٌ في ذاته -بحسب الفيلسوف كانط (1724-1804م)- سوى الإرادة الخيـِّرَة، فخيرتها مطلقة لا تتغير حسب الظروف والأحوال، وليس المقصود بها نيةُ فعل الخير بشكل عام بل هي الإرادة التي تعمل وفقا لمبدأ الواجب الأخلاقي وليس ابتغاءً لأدائه فقط! فهي -أي الإرادة الخيرة- كما يشرح عبدالرحمن بدوي تعمل «من تلقاء نفسها ولنفسها وتتجلى في الأفعال الخيرة دون أن تكون في حاجة إلى قدع (كبح) الميول الطبيعية». هذه الإرادة هي التي تُشَرِّعُ لذاتها، فمن داخلها ينبثق قانون الواجب المطلق الذي يدعو إلى أن ننطلق في أفعالنا من مبدأ إرادتنا في كون ما نفعله قانوناً كلياً للطبيعة، بعيدا عن الغايات النفعية والأنانية واعتبارات الظروف والأحوال، وخليقٌ بهذا القانون الكلي -بحسب كانط- أن يكون معياراً نحكم به على أخلاقية ما نأتيه من أفعال.
بيد أن المشكلة في مثل هكذا قانون أنه مطلقٌ لا يراعي اختلاف الظروف والأحوال، والمثال الشهير الذي يستخدم للطعن عليه هو مثال (السلاح المستعار) فلو استعار زيد من عمرو سلاحا ووعده بإرجاعه إليه ثم جاء عمرو مغضباً طالباً سلاحه ومصرحاً بنيته قتل زوجته بهذا السلاح، فإن زيداً مجبر وفقاً للواجب الكانطي على رد السلاح والوفاء بالوعد دون اعتبار للتبعات.
وثمة مشكلة أخرى في هذا القانون المطلق وهي احتمال تعارض أكثر من واجب أخلاقي في آن واحد، فقد تعد صديقا لك -على سبيل المثال- بالخروج معه مساءً للتنزه، وفي طريقك إليه يتصل بك أخوك عارضاً لك حاجته الماسة إلى مرافقته في المستشفى ذلك المساء، فإن رافقت أخاك في المستشفى فلست أخلاقياً بحسب كانط لأنك قد أخلفت موعدك مع صديقك! وقد أشار برتراند راسل إلى هذه المعضلة حينما ذكر أن نظرية كانط الأخلاقية تعترضها صعوبة منطقية، فهي لا تحسم الخلاف في حال تعارضت مصلحة شخص مع مصلحة شخص آخر، فإذا كان كل إنسان غاية في ذاته فمن سيتنازل لمن؟!
هنا يأتي دور الفيلسوف الأسكتلندي وليام ديفيد روس (1877- 1971م) الذي حاول تقديم نسخة مهذبة من نظرية كانط الأخلاقية تراعي اختلاف الظروف والأحوال وتؤمن بوجود عدد من الواجبات الأخلاقية سأعرضها لاحقاً. وقد ضمن روس إسهامه في مجال فلسفة الأخلاق كتابه الأبرز (The Right and The Good) وكذلك كتابه الآخر (The Foundations Of Ethics) وله أيضاً ترجمات معتبرة لعدد من كتب أرسطو صدرت في سلسلة أكسفورد الشهيرة.
في البدء يؤمن الفيلسوف روس بوجود نظام أخلاقي كوني قائم على الحدس، والحدس عنده أساس عالم الأخلاق كما أن الحس هو أساس عالم العلم، والحدسُ هو وسيلتنا الموثوقة لمعرفة صحة وخطأ آرائنا الأخلاقية دونما حاجة إلى اختبارها تماماً مثلما نحن واثقون في الرياضيات من أن 2+2=4. ولأن الحدس هو وحده الهادي في مجال الأخلاق فإن روس يعد نتائجه إلزامية، ومن أجل ذلك فهو يعد فيلسوفاً ديونطولوجي (Deontologist) لا يختلف عن كانط سوى بإيمانه بوجود أكثر من واجب أخلاقي.
كما يعارض روس كثرا الفلسفات النفعية في مجال الأخلاق، فهو يعتقد على سبيل المثال أن نفعية جيرمي بنثام (1748- 1832م) القائمة على مبدأ اللذة عن طريق تحقيق أكبر قدر من السعادة وتخفيف الألم تنطوي عن تبسيط أكثر من اللازم لا يخولها أن تكون أساساً أخلاقياً تقوم عليه حياتنا، إذ ثمة كثير من العلاقات الاجتماعية المعقدة -كعلاقة الأب بابنه والزوج بزوجته- لا يمكن لها أن تستقيم وفق هذا المبدأ. أما نفعية مور (1873- 1958م) المثالية -ومور معاصر لروس وقد تأثر روس به كثيرا- والتي ترى الصواب الأخلاقي في اختيار الفعل الذي يحقق أكبر قدر من الخيرية للجميع فيراها روس غير عملية، ويتهكم منها بوضع هذا الافتراض: «افرض أن زيدا قد وعد عمروا بشيء ما سيتفيد منه عمرو مبلغ 1000 ريال، لكن لو أعطى زيد هذا الشيء لخالد الذي لا يرتبط معه بموعد مسبق فسيستفيد منه مبلغ 1001 ريال» يلاحظ روس هنا أننا إذا اتبعنا نظرية مور فإن عمروا يجب أن يخلف وعده لأن الخير الأكبر (زيادة ريالا واحدا فقط) إنما يتحقق بذلك!
ثم يلتفت بعد ذلك روس إلى كانط وقانونه الأخلاقي الكلي ويرى فيه أيضاً شيئاً من التبسيط لأنه يتجاهل اختلاف الظروف والأحوال كما أسلفنا، ومن أجل ذلك يقدم مقترحا لحل هذا الإشكال سنتناوله بالمقال المقبل.
- علي النهابي