د. عبدالحق عزوزي
مرت الإنسانية بأزمات اقتصادية، بل إنه ومنذ أن تمكنت الرأسمالية من السلطة، بدت الأزمة حالة طبيعية. غير أن العالم عاش صدمة قوية واضطرابا كبيرا وتغيرات مهمة أدت إلى تغير الميكانيزمات الاقتصادية والمالية الدولية؛ وأعني بذلك أزمة 2008، التي كانت أزمة اقتصادية، وهي ليست الأولى في التاريخ وإنما الأولى التي يمكن اعتبارها كونية. ويمكن تفسير هذه الأزمة الأولى في زمن العولمة بعجز المجتمع الأمريكي عن تقديم أجور لائقة للطبقات المتوسطة، مما دفع هذه الأخيرة إلى الاقتراض لتمويل شراء منازلها، وبالتالي إلى الزيادة في قيمة الأصول وفي الإنتاج، ونمو الشركات المالية وتزايد «المطلعين» الذين ينشطون هذه الشركات دون أية مراقبة من الحكومات أو المؤسسات الدولية، وهكذا حدث الغنى دون أدنى خطر بفضل التوريق (CDO) وبفضل شبه التأمين (CDS)... وجدت العديد من الأسر الأمريكية الأكثر فقرا، والتي عرضت عليها القروض العقارية الرهنية، نفسها غير قادرة على سداد ديونها. وبدأت البنوك في مصادرة الممتلكات، كما بدأ المالكون المثقلون بالديون في بيع ممتلكاتهم قبل أن تصادرها البنوك، مما أدى إلى عدم التوازن بين العرض والطلب في سوق العقار وانخفضت الأسعار. وهكذا، وجدت البنوك ومضاربوها «الانتحاريون» أنفسهم بمساكن مصادرة وغير قابلة للبيع، وباستثمارات لا قيمة لها إضافة إلى مشاكل السيولة، وانعدمت الثقة في عالم مالي واقتصادي لا يقبل غيابها، وأصبحت الأزمة كونية وبدأت الوقائع تطلعنا على حقائق لو حكيت قبل الأزمة لقيل عنها إنها من ضرب الخيال.
وقد نجح دونيرو في أحد أفلامه The Wizgard of Lies تصوير جزء من أكبر عملية نصب تاريخية في دولة ديمقراطية متقدمة تعج بالمراقبات المالية المتنوعة والقوانين الدقيقة، وأعني بذلك الولايات المتحدة الأمريكية. بطل عملية النصب هاته هو السيد برنارد مادوف الذي تم اعتقاله في 11 دجنبر من عام 2008 عن طريق مكتب التحقيقات الفدرالي بناء على بلاغ من ابنيه خوفا من أن يتابعا هما بنفسيهما إذا قاما بتغطية الحقيقة بعد اكتشافها. وتعتبر عملية النصب تلك التي تدعى بسلسلة بونزي، عملية تم فيها النصب على ما يزيد عن 50 مليار دولار وجرت على عقود من الزمن، ولا أعرف في التاريخ البشري أكبر عملية نصب مثل هاته حيث تمت على يد شخص واحد، وكتم احتيالاته حتى عن زوجته ناهيك عن ولديه اللذين كانا يشتغلان عنده. وقد كان ممنوعا على الولدين الوصول إلى الطابق 17 هذا الطابق الذي كانت تشتغل فيه شياطين الإنس الذين يزورون ويسولون ويملون لكبار أغنياء العالم درب الاغتناء السريع والآمن. وفي الفيلم نرى أناسا يضعون في حسابات برنارد مادوف كل ما يملكون وبملايين الدولارات ليجدوا أنفسهم ذات يوم بدون دولار واحد، ومن هؤلاء من انتحر...
برنارد مادوف كان أستاذاً بسيطاً للسباحة قبل أن ينشئ صندوقاً للاستثمار بـ 5000 دولار أمريكي. عرف هذا الرجل بذكائه وبعبقريته وبسرعة بديهته إلى أن ثبت رجليه في عالم المال، ووصل به ذكاؤه أن ترأس الناسداك (Nasdak) وهي بورصة القيم التكنولوجية وكان ذلك من سنة 1990 إلى سنة 1991. وبرنارد مادوف هو أيضاً من النخبة اليهودية النيويوركية الملهمين بالذكاء المالي أينما حلوا وارتحلوا... وهو كان يأخذ من أموال المستثمرين الجدد ليعطي منها إلى المستثمرين القدامى، وبذلك كان يعطي للجميع انطباع النجاح الدائم والأكيد والسريع، والاستثنائي في عالم مالي يطبعه المجهول واللايقين والغموض... وبناء على ذلك كان هذا المحتال يجذب باستمرار العديد من المستثمرين الجدد، وكان هؤلاء المساكين الجدد يجهلون أن هذا الرجل يقوم بتبذير الأصول التي يقومون بإيداعها عنده، وعندما نشبت أزمة 2008 حاول البعض سحب إيداعاتهم وممتلكاتهم ولكن هيهات هيهات... يكتشف المقربون من برنارد مادوف الفضيحة، يتم التواصل مع السلطات، فيتم الاعتقال والمحاكمات المتتالية.
من يشاهد الفيلم يبقى مبهوراً من كثرة الضحايا، ومن تلك الأسماء والبنوك والمؤسسات العريقة التي راحت ضحية شخص واحد، أذكر على سبيل المثال مؤسسة جائزة نوبل إيلي ويسل، السينمائي ستيفن سبيلبرغ، البنك الإسباني (الذي خسر لوحده ما يزيد عن ملياري دولار) واللائحة طويلة... إنه الجشع والطمع والكذب والبهتان والاستغلال، وهي فيروسات إذا تطورت داخل عالم المال والاقتصاد فلتتنبأ بفترات عجاف ستقع طال الزمان أم قصر.