سام الغُباري
في «ضُـبة» عليك أن تمد أصابعك فقط لتلامس القمر، هناك حيث يبقى الزمن مشرقًا، يشرق نجم آخر اهتديت إليه فأهداني وهداني، سهيل يتربع في شمال السماء، و»فؤاد» يضيء من المغرب، مغرب عنس.. بلدة الجبل الأخضر، في لحظة شعرت أني أنتمي إليها، سكنتها أيامًا قليلة فأسكنتني.
- لم تكن قريتي ولكن «فؤاد» فيها، صديقي الذي جعلني هذا الذي تشاهدونه، حملني من رصيف الثانوية إلى رئاسة تحرير أول صحيفة شبابية في ذمار واسمها «أشم»، كُنا صغارًا وهو كبير كأب، أنا نحيل وفقير، ضائع في مراهقتي وأيامي، أسأل الله لمَ خلقتني بشريًا ؟!، كنت أرجو أن أصير أسدًا، أو بطل كارتون في مسلسل «الكابتن ماجد» مثل «وليد» حارس المرمى. ولأجله أصبحت أفضل حارس في فريق الحي، لكني لم أُصب بمرض القلب، يا لتعاستي !.
- فؤاد عبدالرزاق إنه هو الذي ما جرحني يومًا بلفظ خارج عن حدود الأدب، أخي الذي أحببته، سند أيام الصبا، اكتشفت صنعاء معه لأول مرة في حياتي، كنت أخشى الموت قبل أن أشاهد «باب اليمن»، صعدنا لطباعة أول عدد من «أشم» على سيارته الكراسيدا وأذكر أني ارتديت بذلة زرقاء !، فصنعاء تستحق الأزرق، تناولنا طعام الغداء في «شلالات وادي بنا»، تحسست الماء الذي ينساب على زجاجها كشلال !، عالم آخر لا يشبه مدينتي الغارقة في الأتربة، قال لي: هناك مطاعم أجمل من هذا، فاندهشت !
- طُبعت «أشم» بخمسة عشر ألف ريال في مطابع الشوكاني التي تحولت في زمن غيابي إلى معرض للسيارات اللعينة، كنت أدعو على صاحب المكان حتى أفلس، فجاء بديله بسوق أغذية مزدهر !، في عصر ذلك اليوم خرجت من فندق لبنان على ضفاف حزيز ذاهبًا باتجاه المطابع، أردت أن أتفقد صحيفتي وألوانها، اشتم رائحة حبرها، أسعد أيامي حين أسمع صوت صافرة المطابع وحركتها، تمنيت لو أني نمت هناك محتضنًا مطبعة الشوكاني فوق أفراخ الورق الأبيض، لكنها أغلقت أبوابها في ذلك المساء التعس، لا بأس سأكتشف صنعاء، دُرت حول المطبعة عشرين مرة، كنت أرجو أن يتسلل أحدٌ من بابها لأسأله عن «أشم»، لم يظهر شيء، وفؤاد المسكين ينبش شوارع صنعاء بحثًا عني، فتّش كل الأزقة وجلًا، كان يشتمني بكل تأكيد لكنه لم يعترف بذلك، وفي أوان العشاء وصلت إلى الفندق فأبلغه موظف الاستقبال برسالة استدعاء عبر جهاز «بيجر الموتورلا»، جاء مسرعًا وغاضبًا، أراد أن يصرخ، لكنه لم يفعل وأنا مطرقٌ على حافة السرير، أتذكر وجهه ممتقعًا يقول : لو أن في يدي عصا لجلدتك بها على فجيعتي بضياعك !، أصدرت ضحكة مكتومة، حاولت أن أبرر لكني آثرت الصمت، نهضت إلى الحمام، ومن هناك سمع فؤاد غنائي لأول مرة تحت صنبور المياه. يبدو أنه ضرب كفًا بكف وقال في نفسه عني الكثير من الشتائم أيضًا،. اليوم أدركت لماذا لم يأخذني معه مرة أخرى إلى صنعاء.
..
- ارتحل فؤاد إلى الأردن لدراسة الحاسوب في جامعة الزرقاء الأهلية، ومن هناك كان يبعث لي بالرسائل عبر البريد، لكني استقلت من «أشم» بعد رحيله، لم يكن أحدٌ من الذين جاؤوا لتولي قيادة اتحاد شباب الميثاق قادرٌ على تحمل اخطائي وحماقتي وحماستي، يوم عاد بعد سنة اجتمعنا للمكاشفة، فجئت بأخي الكبير ليسندني في مبرراتي، ولما رآنا معًا قال لي: أتريد أن نكسر بيضتين على رأسك حتى تنطق !، كانت تلك أقسى كلمة سمعتها منه، وفي تلك الليلة هُزمت، جعلوني شيطانًا ولستُ كذلك، كنت فقط أفتقد مهارة الحديث. ولو أن الاجتماع كان بالكتابة لدافعت عن نفسي جيدًا.
- تلك لحظات من مرحلة العُمر، استدعيتها في تفقدي لصفحة الحبيب فؤاد عبدالرزاق على فيس بوك، شاهدت كل صُوره، وأدركت في أعماقي أني أفتقده بشدة.
..
يا فؤاد : لم أزل ذلك الذي عرفتني، أنا المشدوه بفصاحتك وأناقتك، بذكائك وحماسك، بعشقك لليمن، وأخلاقك الرفيعة، وكيف لا تكون كذلك وأنت ابن الأستاذ الذي أحببناه كرمز، أردت أن أقول لك ذلك في أول يوم استعيد صفحتي على فيس بوك بعد حظر دام 37 يومًا. فلا تسمع لأحد. لقد أحببتُ بلادي ولم أشأ لها أن تموت بين أذرع الحوثيين الظالمين، فغادرت. واكتشفت أني افتقدتك بحنو والتزام، افتقدتكم جميعًا، حسين الخلقي وعبدالله المشرمة ومحمد الميثالي وخالد القحطي ومحمد دانخ ومروان عبدالمغني وعبدالله الكوماني ومحمد علوي وهشام عبدالرزاق وعُصبة «أشم» جميعها ودار ذمار للكمبيوتر، افتقدت مجلسكم، ويحيى الصراري هل ما يزال موجودًا؟.
..
إلى اللقاء