د.فوزية أبو خالد
أضع يدي على قلبي تطلع لي جهات الشعر
أضع يدي على تراب وطني تطل جهات الشعر
أضع يدي على القارات تنفلت جهات الشعر من سطوة الجغرافيا
أضع يدي على هامتي تبرق جهات الشعر من المفارق
أضع يدي على الغابات على البساتين على الحقول على الواحات على الجنات يضوع عبير القصائد
أضع يدي على البحر تتطاير النوارس والأمواج والأشرعة من جهات الشعر
أحرك أصابعي على المفاتيح تندفع موسيقى زوربا وبحيرة البجع والدانوب الأزرق والنهر الخالد وباخ وخوليو وياني ونصير شما وخالد الشيخ
أضع يدي على الساعة تهل الأوقات من شمس منتصف الليل إلى حلكة العشاء ومن شفافية الشفق إلى زرقة السحر
أضع يدي على الفصول وبينما الشعر في منتصف الصيف يهب الخريف يخلع عن الأغصان فساتينها وقمصانها ويسلمها للشتاء مهيأة للاشتعال أو الانطفاء حسب مصائر الشعراء في علاقتهم بسؤال التحولات والتحديات معا.
آخذ الكتاب بقوة يتقاطر شعراء العالم عبر كمائن الأمكنة ومخابئ التاريخ من مختلف الحواضر والبوادي والأدغال, من مختلف الأجيال والأعمار والغوايات يحملون ديوان العرب بعدة لغات وبعدة أطياف وبعدة أنواع من الجمال من الجمال الجريء الخلاّب إلى الجمال الخجول الخلاب أيضاً.
لا أظن مكاناً في العصر الحديث اتسع لكل شعراء الكون مثل جهات الشعر. ولاأظن ملاذاً تسامح مع كل صعاليك الشعر وسحرته وأساطينه مع أبطالها وأطفاله وحواريه وحورياته مثل ما فعلت جهات الشعر. لاأظن موقعاً تعايش فيه الشعراء على اختلاف وائتلاف المشارب والأمزجة والميول وعلى تنوّع شكل ومضمون القصيدة مثل ما فعلت جهات الشعر.
كانت مفاجأة لي وربما للكثيرين من هواة الشعر وعشاقه, ولم تزل الفضاءات الافتراضية بعد بكر وما زال قلة أقل من القليل يتجرؤون على الاقتراب من مفاتيحها وشاشاتها أن نرى الشاعر قاسم حداد يغامر بالخروج على أدوات العمل المعتادة ليكتب وقتها أول قصيدة فردية على الفضاء الإلكتروني باسم حركي عام وبعنوان جمعي ومتعدد في نفس الوقت اسمها جهات الشعر. كان ذلك في التسعينات بداية الألفية.
لم يكتف قاسم حداد في جهات الشعر بالبحرين أو بالخليج أو بالعالم العربي، بل جعله منبراً وطنياً وعربياً وإقليمياً وعالمياً بامتياز وبشرط مستحيل هو شرط الاستقلال عن بعضها والتفاعل مع بعضها البعض واحترام مشتهى الانطلاق لكل منها. أخرج جميع الدوائر الجغرافيا والسياسية من الحدود والحواجز والجمارك والضرائب وأطلقها أفراساً وفوارس لم تروّض وغير قابلة للترويض لترمح في الملكوت الإلكتروني بحرية مطلقة.
وبقدر ما دأب الساسة على استخدام الفضاء الإلكتروني للتضييق والملاحقة وترويج خطابهم مقابل تكميم الخطابات الأخرى باعتباره المنطوق الوحيد السائد أو الذي يجب أن يسود, بدا مشروع قاسم حداد الشعري الخاص والعام على عكس ذلك. فجاءت جهات الشعر عبر الفضاء الإلكتروني مشروعاً لتوسيع الأفق كبديل جمالي وليس سياسياً وحسب للتضييق, وجاءت جهات الشعر محاولة للانعتاق بدل الملاحقة وجاءت جهات الشعر اعترافاً وتأسيساً لتعدد الأصوات ولتنوّع المحتوى.
فصار الشاعر إذا انتصر يجري ليشارك عامة الشعب الشعري أي كافة الشعراء والمريدين والقراء والمغامرين والغاوين مجد الانتصار عبر شاشة جهات الشعر. صار الشاعر إذا هجره الإلهام أو جافته شياطين الشعر يستسقي بجهات الشعر كما إذا اكتشف كنزاً أو وقع على مفردة جديدة ركض ليسجل براءة اختراعه الشعري في جهات الشعر. صار الشاعر إذا أنكسر أو انهزم يطير لجهات الشعر ليبحث عمّا تفرفط من ريشه أو ما احترق من أحلامه أوما أكلته الجوارح من مهجته. صار الشعراء إذا جنت بعض خلاياهم أو دخلتهم فيروسات مرض أو عشق لا يجدون ملجأ إلا جهات الشعر ليأتمنوها على أمانيهم الأخيرة أو ليستودعوها ضعفهم الإنساني وليستقوا برياح الجهات على آلامهم كما فعلت في أكثر من مرة ليس آخرها يوم كنت أقاوم السرطان 2011م. فأين يذهب الشعراء اليوم من طرفة بن العبد وأبو نواس وجبران خليل جبران وأدونيس ومحمود درويش وأحمد الملا ومن الخنساء لولادة وليلى الأخيلية وميسون صقر وسعدية مفرح ونجوم الغانم وهدى الدغفق. أين تذهب المعلقات العتيقة وأين تذهب قصائد الهايكو, أين تذهب القصائد العمودية وقصائد التفعيلة وقصيدة النثر والقصائد التي لم تكتب بعد ولم تكتشف تسمياتها بعد أين يذهبون إذا توقفت جهات الشعر وتفرّقت السبل بالشعراء فلم يعد الشعر المكسيكي يعانق الشعر التركي ولم يعد الشعر الإيراني يعانق البرازيلي ولم يعد الشعر الأمريكي يعانق الشعر الأفريقي ولم يعد الشعر العربي يعانق الشعر العالمي بكل اللغات ولم يعد طاغور ولا مايا إنجيلا ولا لوركا ولا علي الدميني ولا بول فاليري ولا فاروغ فرخ زاد يلتقون على الشاشات عبر جهات الشعر؟؟؟؟
ورغم أن الشاعر البحريني قاسم حداد هو من افتتح نوافذ وبوابات جهات الشعر بمبادرة ذاتية في وقت كانت لا تزال العداوة على أشدها بين عدد كبير من الشعراء وبين مفاتيح و شاشات المنصات والمنابر الإلكترونية, فإنه لم يستأثر بجهات الشعر وحده، بل جعلها متنفساً ومتكأ وعلم على رأسه نار تهفو إليه أرواح الشعراء والقراء من شتى الأصقاع والحقب والمراحل من الشاعر سليم بركات ممثلاً للتنوّع الجغرافي والحضاري إلى روبرت فروست ممثلاً للطرقات والحضارات غير المطروقة.
لا أريد لهذا المقال أن يكون تأبيناً لجهات الشعر فطائر الشعر لا يُعييه البحث عن جهات للشعر إن غفت جهات ولكنني أريده مجرد سؤال يجرح حنجرتي, هل يمكن أن يكون مقبولاً الحديث عن الاستقلالية المالية لمنابر الشعر وجهاته كشرط ورمز لاستقلالية الفكر والموقف إن لم يكن بوسعنا أن نبقي على قبس من تلك الشعلة المسروقة لنستضيء بها على جهات الشعر؟ّ! أطرح هذا السؤال البسيط المعقد على نفسي وعلى كل من أعرف ولا أعرف من الشعراء والقراء وفي قلبي هاجس موجع خشية أن يصح فينا بيت الشعر الشهير والشفيف للشاعر أحمد شوقي في نتيجته النهائية فنذهب لغير رجعة في اللحظة التي تذهب فيها عنا جهات الشعر أو تغيب عن أعيننا تاركة كل منا وحده في وحشته الشعرية أو أُنسها.