د. جاسر الحربش
لا فائدة من التعبير عن الأحزان على فقيد بعد وفاته، ويكفيه أن يموت وهو يعرف المحب الصادق الوفي، متجاوزاً عن من عداه، وهكذا كان علي العنيزان، غادر فجأة علي بن محمد العنيزان إلى رحاب الله الطاهرة ومغفرته الواسعة وقد بقي له من المحبين الأوفياء أقل بكثير مما جمعتهم به السنين لكنهم تساقطوا كأوراق الشجر في مواسم الخريف، أما هو فاحتفظ للجميع ببقايا أمل في التمسك بالأصول، العروبة والأرض وفلسطين.
لم أعرف أحداً أمضه الألم بسبب ما تعانيه المرأة والطفلة والعجوز الفلسطينية مثل علي العنيزان، أكرمه الله بمقدار ما أحب وتعاطف مع من شردوا وقطعت أشجارهم وهدمت دورهم وكسرت عظامهم بأعقاب البنادق الصهيونية. في السنوات الأخيرة بعد أن راجت وتوسعت مفردة التطبيع مع المغتصب العنصري لم تعد ابتسامة علي العنيزان بنفس البشاشة والإهتزاز في الصدر والقسمات، تحولت ابتسامته الفطرية الصافية إلى بقايا ابتسامة وعتب مكتوم على الزمان والأوضاع والناس، وخصوصاً على المثقفين السابحين في كل تيار تكون فيه الأسماك أسمن وأكثر.
كان علي العنيزان تغمده الله برحمته ومغفرته يحاول أن يشع من حوله السعادة الظاهرة والتماسك والتفاؤل، لكن نوره الداخلي لم يعد متوهجاً كما كان، بسبب التساقط المتسارع في المفاهيم والاستعداد للتنازل عن الأصول الجغرافية والتاريخية، امتثالاً وانصياعاً لجبروت القوى الغازية ومسايرة للأمر الواقع ويأساً من جماهير تلاعبت بهم الطائفيات والعنصريات فأنستهم الأصول الجامعة التي بدونها تموت الأمم مهما ادعت الإيمان والتقوى.
لأنني لا أعتقد أن من مات يفقد القدرة على التواصل العاطفي مع من غادرهم، وذلك بقناعة تجربة شخصية حين كنت ذات يوم في مقبرة النسيم لدفن صديق توفي البارحة، ثم وفجأة تغيرت الدنيا من حولي واصطبغت بلون الزعفران وسمعت صوت صديق قد مات ودفناه قبل شهور يناديني بصوته المرح المعتاد وكأنه يرح بي يا جاسر، فاقشعر جلدي ثم تماسكت وذكرت الله لأعود إلى الواقع الدنيوي مع الحاضرين.
من هذه التجربة التواصلية أقول للمرحوم علي العنيزان اطمئن يا علي، فلسطين ستعود لأهلها وأصلها لأن القضايا المصيرية لا تموت بالتقادم، فها هي الأجيال الفاشلة في فلسطين أعقبتها أجيال مقاومة، والأيام سجال.