د. حسن بن فهد الهويمل
حقولُ «مكتبتي» أو بعضها تعلوها غبرة الإهمال. والبعض منها تتحرك الكتب منها، وإليها جيئة، وذهاباً من الرفوف إلى مِنَصَّةِ القراءة. ولك أن تقول مثل ذلك عن المواقع [الإلكترونية].
فما من نازلة: سياسية، أو فكرية، أو دينية إلا ونركض في فيافي المواقع، ونُنَقِّبُ في بطون الكتب، نستقرئ، ونحلل، ونُقَوِّم، ونزداد من المعارف، والآراء، حمل بعير.
فهذا مُقْتَضى التثبت الشرعي:- {إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا}. حتى ولو جاء به غير فاسق. فـ[الفاروق]، حين رَوَى له أحدُ الصحابة حديثاً في الاستئذان، طلب شاهداً يعضد روايته.
ولما كان الكَذَبَةُ سادةَ المواقفِ، أصبحت المصداقية، والعدل على خطر.
وكيف لانتوقع غمط الحق، وموسوعات الأحاديث الموضوعة على الرسول وسِعَتْ أربعين ألف حديث.
ومثلما تَقَصَّى النقادُ أسباب [نَحْلِ الشعر]، تَقَصَّى علماءُ الجرح، والتعديل أسباب وضع الحديث.
فعلى سبيل المثال كان حقل [الماركسية] من أشد الحقول سخونة، ونمواً، وحركة. وهو اليوم من أشدها انطفاء، وإهمالاً. وحالنا مع هذا الحقل كحال صاحب كتاب [ومشيناها خطى: صفحات من ذكريات شيوعي اهتدى] أهداه إلى الذين لازالوا في الضلالة يَعْمَهُون.
لقد قرأنا من الكتب، والدراسات، والمقالات ما أضعنا معه الجهد، والوقت، والمال. ولما انفض سامر القوم، علت الحقلَ غبرةُ النسيان. ولك أن تقول مثل ذلك عن ظواهر عَصَفَتْ بالمشاهد، ثم سكنت، على سنن [لِكُلِّ خَافِقَةٍ سُكُونُ].
ومثلما شغلتنا [المأسونية]، و[الصهيونية]، و[العولمة]، و[العلمانية]، و[اللبرالية]، و[القومية]، و[الناصرية]، و[الحداثة]، و[البنيوية]، و[الصحوة]، وسائر موجات التغيير، شغلنا [التشيع] بعد أن تعهد [الملالي المعَمَّمُون] تصديره.
لقد كانت الكتب المتعلقة بـ[التشيع] ضمن حقل [الملل، والنحل] ننظر إلى كعوبها، ثم لانجد الرغبة في تصفحها، لأن [ظاهرة التشيع] منسجمة مع ما حولها من الملل، والنحل. وهي [مكون سكاني] في دولها، تعطيها السلطات حقها، كأي أقلية.
وبعد أن حطت رحال [الخميني] في [إيران] وبعث [التشيع المجوسي المُحَرَّف] انتابتني كغيري رغبات ملحة، لأخذ هذه النحلة من أطرافها، والتعرف على التشيع من مصادره. التشيع المعتدل، قبل القرن الثالث الهجري، والتشيع [المؤدلج] والمسَيَّس، و[التشيع العربي]، و[التشيع المجوسي]. ماقبل [الخميني] ومابعده. تمشياً مع قاعدة:- [الحُكْمُ عَلى الشَّيْء فَرْعٌ عن تَصَوُّرِهِ] ومن ثم أصبح للتشيع حقلٌ مستقلٌ، ينمو يوماً بعد يوم.
لقد حرصت، - وأنا أزور [العراق] كل عام مرة، لحضور [مَرَابِدِه] على مدى ست سنوات - على التنقيب عن كتب الشيعة أنفسهم، وعما كتبوا، وكُتِب عنهم.
فمن المبادىء التي أؤمن بها قراءة الظاهرة في ذاتها، ومن ذاتها. بمعنى الحرص على قراءة المذهب بأقلام مريديه، وبُنَاتِه.
وقراءة الشيء بذاته، أسلم، وأحكم من قراءة مايقال عنه. إذ ربما يحمل التعصبُ والتَّعَنْصُرُ على افتراء الكذب.
والمستبرئ لدينه، وعرضه، الباحث عن الحق، لايسعه إلا التقصي بذاته، وتكوين رؤية ذاتية، لايمليها أحد عليه:- {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا}. {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}.
لقد كنت من قبل أنظر إلى [الطائفة الشيعية] مثلما أنظر إلى ماسواها كـ[الزيدية]، و[الصوفية]، و[الأشاعرة]، و[الماتريدية]، و[الأباضية] وسائر الملل، والنحل، ضمن ما أثر عن افتراق الأمة إلى [ثلاث، وسبعين] فرقة. لانكفر فرقة مِنْها، ولانقاتلها عليها. بل نراها مبتدعة، يؤخذ من قولها، ويرد، وحساب الجميع على الله.
وبعد أن بعث الغرب بـ[الخميني] محفوظاً، ومحمولاً، ومَحْفُوفاً برعايته، انكشف المستور، وأصبح حقل [التشيع] متلاطم الأرجاء، لأنه لم يكن نحلة، وحسب، ولم يكن تشيعاً عربياً.
لقد وقفت على كل دواخله، منذ الخروج على [الإمام علي] رضي الله عنه، ووقوع الأمة تحت طائلة قوله تعالى:- {الَّذِين فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا}.
لقد كان انتصار الخليفة [علي] قاب قوسين، أو أدنى، ولكن [رفع المصاحف] فَرَّقَ الأمة، وحمل [علياً] مُكْرَهاً على قبول التحكيم. وعندها انفرط عِقْد الأمة، فكان [الخوارج]، و[الشيعة].
بقي كيان [الشيعة] في جزر، ومد، واضمحل [الخوارج] إلا من بقايا باهتة، متصالحة، منكفئة على نفسها كـ[الأباضية]. فيما تحول [التشيع المجوسي الصفوي] إلى راية سوداء، تُرفع بين الحين، والآخر، لتنفيذ [أجِنْدَةٍ] مشبوهة، متَّشحَةٍ برداء [الدين] الذي تُسْتَدَرُّ به عواطف الدهماء، ويُخدع به السذج، والعاطفيون.
كان [الفاطميون]، و[البويهيون]، و[العبيديون]، و[الصفويون] الذين تولوا بدموية حاقدة كِبْرَ الانحراف، والتسييس، وإراقة الدماء.
ثم كان [الخمينيون] بعد أن وجد فيهم [الغرب] وسيلة طيعة لتفكيك [المشرق العربي]، وإعادة صياغته على ضوء خرائطه الجديدة.
لقد لعب [الخميني] لعبةً ذكيةً، غير زكيةٍ. يلعن الغرب، ويسمي [أمريكا] بالشيطان الأكبر، ومنها يتلقى السلاح، والأوامر، وعلى ضوء خرائطه تمشي أزلامه.
مفتريات [الآيات] أضلت [شيعة العرب]، والرجال الجوف، مما سواهم، وحملتهم على الحرب بالوكالة، وعمقت العداوة، والبغضاء إلى يوم القيامة.
- وهل بعد التصفية الحسدية من صلح يرتجى؟
قدر [المملكة العربية السعودية] أنها المسؤولة عن سواد [أهل السنة]، وأنها صمام أمان المنطقة بكل طوائفها، وأداة حفظ توازنها.
وهذا حَمَّلها مسؤوليات جسام، وجعلها تمثل الجبهة الساخنة في وجه الأطماع التوسعية، وأحلام تصدير الثورة، والطائفية. منذ زمن [الناصرية]، و[الصدامية]، و[القذافية].
لقد صَمَدَتْ، وأحبطت كل الأطماع الدفينة، التي لايعلمها إلا الراسخون في علم اللعب السياسية.
جاء [الخميني] ومَشْرِقُنا ينعم بالهدوء، والاستقرار، والتصالح مع كل المتناقضات: الفكرية، والسياسية، والمذهبية.
وحين اجتاح المشرقَ العربي إعِصارُ ما يسمى بـ[الربيع العربي] كان عرَّابُه [الآيات]، و[الملالي] بعمالتهم المتفسِّخةِ، يمدون سفهاء الأمة بالغي، والسلاح، والإعلام الخادع المخادع.
وكان الطعم الأقوى تأثيراً عَباءة الدين. التي اتشحوا بها، مُدَّعِين نصرة المستضعفين، ورفع الظلم عن المظلومين. إنها جواذب سرابية، يوفض إليها العطاش، ثم لايجدون إلا الحقيقة القاتلة.
[الخمينية] موجة أعنف من موجات الحزبيات، والانقلابات وغيرها من الحركات المختلفة المشارب، مع تفاوت في الدركات.
[المملكة] في ظل تنازع [الصفوية]، و[العثمانية]، و[الشرقية]، و[الغربية] وظفت كافة إمكانياتها لصد طوفان تلك الأوبئة. والحدِّ من سريان وباء اللعب.
والسرعان الجوف من الدهماء يتهافتون كالفراش على كل بارق؛ والعقلاء المجربون يأخذون على أيديهم، وينذرونهم لقاء مصائرهم الغامضة.
لقد نفذ العدو من الثنيات المهملة. وأذكى أوار الطائفية، والعرقية، والإثنية، حتى فرقوا دينهم، وكانوا شيعا.
مخططات الاستعمار غير الاستيطاني تَقْتَضِي تفريق الكلمة، والصف، والهدف. ليوجد من خلال ذلك من يقاتل عنه بالإنابة. و[الخمينية] نفذت اللعبة القذرة باحترافية فائقة، وإصرار، واستكبار. والغرب اليوم يمارس عودتها إلى [مربعها الأول].
الزياراتُ المتواصلة لكبار المسؤولين من بلادي، ولقاءآتهم بزعماء العالم المؤثرين في المشاهد السياسية محاولةٌ متفائِلةٌ لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وتصرفٌ جاد لإيقاف التدهور، وحقن الدماء. وتدارك الأمة العربية بعدما تفانوا [وَدَقُّوا بَيْنَهُمْ عِطْرَ مِنْشِم].
الأمة العربية مطالبة بمراجعة نفسها، بكل مكوناتها السياسية، ومعرفة عدوها، وتدارك أمرها، فالفرص النادرة، لاتطرق الباب أكثر من مرة.