د. محمد عبدالله العوين
كنت في زمن قديم من عشقي للكتب لا أمنع نفسي إن وجدت في جيبي بعض دريهمات أنقدها نقداً دون عد أو تحسر أو ندم على ما يجيب على تساؤلات معرفية تقلقني أو يلبي شغفاً فنياً يمتعني.
ولكن أين مني الريالات الكثيرة التي تشبع نهم طالب في مراحل الدرس الأولى وقد كنت أتقاضى مائة ريال عن عمل شهر كبائع في «مكتبة الثقافة» فأشتري ما أراه ضرورة ملحة وأقرأ في المكتبة ما لا أستطيع شراءه، أو أذهب إلى المكتبة العامة التابعة لوزارة المعارف وقد كانت عامرة بما لذّ وطاب من الكتب التراثية والحديثة مجلدة ومرقمة ومرتبة في أقسام حسب تخصصها، وعامرة أيضاً بالمجلات والصحف السعودية والعربية.
ولم تكن مرحلة الجامعة بأكثر يسراً من سابقتها فما نستلمه ونحن متراصون في «الطابور» أمام مكتب المحاسب في الكلية مطلع كل شهر جديد لا يزيد على مائتين وعشرين ريالاً لا يمكن أن تشبع نهماً لزائر مكتبة، ولا تلبي تطلع شاب يريد أن يرتدي من اللباس ما يقترب من أذواق زملائه المترفين ممن تبدو عليهم مظاهر الغنى، يريد أن يقرأ كثيراً؛ لكن لا يريد أن ينزل مستوى تأنقه كشاب لصالح الكتب والمكتبات.
كان ذلك الزمن القديم أواخر التسعينيات من القرن الهجري الماضي، وذلك الجيل المقبل على الحياة في سنوات الجامعة الأخيرة يغالب أتواقه وأشواقه إلى المتع الجمالية والذوقية والمعرفية في خصام شديد بين التطلع إلى ألا يحرم نفسه مما يزعم أنه ضرورة ويد لا تكاد تقبض على شيء من المال يلبي تلك الرغبات المتقافزة في الصدور.
أما اليوم فلا أشكو - ولله الحمد - من الفاقة كما هي أيام الطلب؛ بل أشكو أين أضع هذه الكتب المتراكمة المتراصة التي امتلأت بها غرف وممرات المنزل ولم يعد ثمة موضع لأن يغرس فيه كعب لكتاب جديد؟ ثم أين الوقت المتسع الفسيح الذي كان زمن الفاقة؟ لقد ولت الحاجة للمال الذي قد يلبي شيئاً من شهوات العشق للكتب؛ لكن جدت الحاجة للوقت للاستماع بثمرة هذا الوصال، وكلاهما (المال والوقت) لا غنى عنهما لراغب في المعرفة.
ها أنا ذا اليوم وقد غزوت المعرض أكثر من مرة هذا العام أعزم على ألا أستجيب لما أهوى، ولا أذل لما تقع عليه عيني، ولا أنهزم لما يسلب لبي؛ لكن هل يمكن أن يقلع المدمن عن إدمانه أو يتوب العاشق عن عشقه؟!
وابتدأت المائة إثر المائة تتقافز من جيبي بسرعة مذهلة؛ فهذا الجبرتي بموسوعته التاريخية الضخمة، وذاك أبو حيان بمقابساته ومسامراته وإمتاعه وإشاراته الإلهية وهوامله وشوامله، وذاك زكي مبارك بليلاه المريضة في العراق وذكريات باريسه، وذاك المازني بحصاد هشيمه، وذاك الوردي والعقاد وجون فيلبي وبرنارد لويس وما سينون وابن حزم والغزالي وابن سينا والوردي والجاحظ..
لم يبق في جيبي ريال واحد لشربة ماء في طريق العودة..