لبنى الخميس
مازلت أتعافى من بدايات الهوس الذي حُذرت منه قبل زيارة مدينة سيئول .. ذلك الانتباه المكثف الذي توليه فجأة لملامح وجهك، وصفاء بشرتك، ومستوى اعتنائك بمظهرك، وتلك الرغبة الملحة في شراء المزيد والمزيد من منتجات العناية بالجسم والشعر والبشرة، كيف لا? ولافتات دعاياتها تحيط بك من كل اتجاه؟ ونقاط بيعها منثورة في معظم شوارع المدينة بواجهات مغرية ولافتات براقة؟ وتوصيات مستخدميها تقفز أمامك أثناء تصفحك للإنترنت؟?
التجميل في كوريا، لغز غامض ونفق طويل سعيت بشخصيتي الفضولية الباحثة عن أجوبة لأسئلتها الكثيرة لاكتشافه، كيف كانت البدايات، وما هي معايير الجمال، وما هي المؤثرات التي تدفع أمة بأكملها نحو صناعة الجمال واتخاذ عاصمتها مركزاً عالمياً له شعاره الإبرة والمشرط.؟
لكن قبل أن نتحدث عن كوريا ذات الوجه الجميل اليوم، بشوارعها النظيفة، وصناعتها المتقدمة، وبناياتها الشاهقة، دعونا نتحدث عن الجروح العميقة، والندوب الغائرة في مسيرة هذه الأمة تاريخياً.
يعتقد بعض المؤرخين أن كوريا هي إحدى أكثر الدول التي تعرضت للاستبداد على وجه الأرض، إذ تم غزوها أكثر من أربعمائة مرة على مر السنين، ولم تلعب يوماً دور الجلاد بل لطالما كانت الضحية خصوصاً لجارتيها اليابان والصين، وما خلفتاه من فقر ودمار. رغم ذلك لم تنجح الضربات المتتالية في خاصرتها أن تقتل معنويات المواطن الكروي، بل كان ينتفض كل مرة من تحت الركام، ويحول الهزيمة إلى معجزة جديدة للنهوض.?
فقد لا تصدق عينيك حين تشاهد صور كوريا في الستينات، لأناس يعيشون حول نهر الهان في صناديق من الخشب والصفيح يزرعون بجانبها الكرنب والكمثرى، وجدول الماء الذي يتوسط المدينة كان مجرد مجرى ملوث يعج بالبعوض والذباب، تحول اليوم إلى شوارع فسيحة، ومنتزهات جميلة، وناطحات سحاب تشق عنان السماء.
لكن لنتوقف لحظة ونفكر، ما هي فرصة أن تمتد أذرع هذا الهوس بالتحول في معالم المدن الكورية إلى ملامح أبنائها من لون بشرتهم إلى مدى اتساع أعينهم واستدارة ووجوههم وكيف استطاعت في غضون عقود قليلة من الزمن أن تتحول من ساحة دامية للحرب إلى قبلة دولية للباحثين عن الجمال مهما كانت معاييره ومهما استعصت سبل الوصول له؟.
بدأت القصة بالعرض الذي قدمته القوات الأمريكية لتقديم جراحة تجميلية مجانية لضحايا الحرب الكورية 1953 الذين تركت الحرب آثارها على وجوهم حين استجاب كبير جراحي التجميل البارع في سلاح مشاة البحرية الأمريكية « دافيد رالف ميلارد» خريج كلية الطب في جامعة هارفارد، لطلبات المواطنين الكوريين الراغبين في تغيير شكل عيونهم الآسيوية إلى العيون الغربية، عبر عملية عرفت بعملية الجفن المزدوج. ?
قد لا يصدق ميلارد الذي أجرى أول عملية جفن مزدوج في التاريخ كوريا، حين يمشي اليوم في شوارع غانغام أن عمليته الترميمية تلك أشعلت شرارة سوق الصناعة التجميل بأسره حتي بات الشارع يحتضن أكثر من 500 عيادة تجميلية يصل بعضها إلى 16 طابقا في مساحة ميل واحد، في شارع يسمى «بحزام الجمال»? ستعرف أنك وصلته، حينما ترى شباب وشابات كوريين90% منهم تحت سن الثلاثين عاما يسيرون في الشارع وهم يرتدون الكمامات والضمادات التي تغطي كدمات وجوههم وأجفانهم المتورمة.
أسماء العيادات بذاتها، تعكس هوساً بالمقاييس الجديدة التي تفرضها هذه الصناعة، فمثلاً هناك عيادة الوجه الصغير، والأنف السحري، وقبل وبعد. أما أسماء الإبر والعلاجات فستداعب خيالاتك المثالية عن شخصيات ديزني الشهيرة التي رافقتنا منذ الطفولة! فهذه إبرة علاء الدين، وتلك إبرة سنو وايت للتبييض.?
في المقال القادم نتناول المزيد من الحقائق الصادمة عن واقع التجميل في كوريا ونتحدث عن المؤثرات الجديدة لهذه الصناعة!