د.عبد الرحمن الحبيب
قال لي أحد الأصدقاء: لماذا لم نرك في معرض الكتاب؟ فأجبته: رغم أن المعرض قرب منزلي وأمر حوله عدة مرات في اليوم فإنني لا أذهب إليه إلا لحضور ندوة أو المشاركة فيها أو في لقاء تلفزيوني.. فالمعرض ليس لأمثالي، بل للمهتمين بسوق الكتاب من ناشرين وموزعين ومؤلفين ومترجمين وبقية أصحاب العلاقة بتجارة هذا القطاع..
فيرد: كيف تقول ذلك وأنت باحث وكاتب، فأقول: لأنني كذلك، أقوم بزيارات متكررة للمكتبات ويومية في الإنترنت ولا انتظر المعرض الذي يقام مرة واحدة في السنة لكي أشتري كتباً، فالبيع تقوم به المكتبات، والمعارض أساساً للعرض وأما البيع فهو ثانوي، والمكتبات يوجد بها آخر المؤلفات وهي تفيض بأضعاف عما في المعارض.. فيُختم الحوار بأن رأيي غريب!
هذا الحوار يتكرر لسنوات مع عدد من الأصدقاء والزملاء من إعلاميين ومثقفين، لدرجة أني مللت من تكراره وصرت أغير الموضوع إذا فُتح. أظن أن لدينا في الثقافة العربية ولا سيما في السعودية فهماً خاصاً ومختلفاً لمعارض الكتاب عما لدى بقية العالم أخذ طابعاً اجتماعياً أكثر من أي شيء آخر. فمعرض الرياض صارت له أجواء احتفالية جميلة سنأتي على أسبابها، لكنها ليست متصلة مباشرة بالكتاب ذاته ثقافة وصناعة رغم ارتباطها الظاهري بالكتاب، بل أجواء ترفيهية تتوجه له الأسر والأفراد أي أنه بالدرجة الأولى صار مناسبة اجتماعية لعموم الناس وللقاءات الأصدقاء وعموم المثقفين.. هذا شيء جميل، لكن ليس لهذا تقام معارض الكتاب.
أكبر معرض كتاب في العالم هو معرض فرانكفورت (الذي عمره نحو خمسمائة سنة) قلما يزيد عدد زواره عن ثلاثمائة ألف زائر، ولا يصل ربع هذا الرقم في معرض نيويورك ولندن، بينما زوار معرض الرياض يتجاوز عادة مليوني زائر! هل أصبحنا عشاقاً للقراءة بهذا النهم؟
عدد الزوار الهائل لمعرض الرياض لا يعني أنه أكبر من تلك المعارض العالمية، فمعرض فرانكفورت يضم آلاف الناشرين أي أضعاف مما في معرض الرياض، وأكثر من مائة بلد ومئات المؤلفين وصفقات ضخمة بين كبرى دور النشر العالمية بمئات الملايين أو بالمليارات، يتم فيها بيع حقوق النشر للكتب الأجنبية والجديدة والحصول على حقوق النشر والتوزيع والترجمة وما شابهه.. إضافة لأهداف أخرى مثل تبادل الخبرات بين ثقافات العالم، وتعقد فيه عشرات الندوات ومئات اللقاءات بين ناشري العالم؛ بينما في معرض الرياض (والمعارض العربية عموماً) تكاد تنعدم الصفقات الكبرى باستثناء المبيعات المباشرة التي قلما تتجاوز 50 مليون ريال.
بالأساس معارض الكتاب ليست للبيع باستثناء بيع عينات فقط، فلا يسمح للدور بالبيع إلا لبضعة مئات من النسخ، بينما لدينا يتم البيع من تحت الطاولة بالآلاف وتحويل المعرض إلى مكتبة كبرى لبيع الكتب. المعارض الدولية في أي قطاع (كمعرض السيارات أو الحاسب الآلي أو الزراعة أو الكتاب..) تقام بالأساس لأصحاب صناعة هذا القطاع أما العموم فمرحب بهم لإشباع فضولهم لا أكثر وليس لشراء المنتَج.
الأسباب التي جعلت من معرض الرياض له هذا الطابع الفريد يعود - في تقديري - إلى سببين رئيسيين تشكلا في سنوات ماضية لكنهما لم يبقيا الآن إنما بقي أثرهما وربما يزول أيضاً. السبب الأول هو افتقار مدينة الرياض آنذاك لمواقع الترفيه والفرجة وملء وقت الفراغ، فكان المعرض مناسبة رائعة لذلك. هذه الرغبة في الفرجة صاحبها زيادة أخرى في عدد الزوار نتيجة فضول الناس لما كان يحدث من متشددين بدعوات المقاطعة لبعض الكتب، والاعتراض داخل المعرض بسلوكيات احتجاج متوترة وغريبة، مثل التدخل في لقاء تلفزيوني أو التدخل في توقيع مؤلفة لكتابها أو الوقوف أمام دار نشر والمطالبة بإغلاقها.. الخ، رغم أن ذلك أصبح من الماضي بعد مكافحة التطرف..
وحتى الكتب التي كانوا يطالبون بمقاطعتها فقد قاموا - عن غير قصد - بترويجها بطريقة مذهلة وكانت تنفد مبيعاتها في اليوم الأول للمعرض، في وقت تمر به الثقافة السعودية والكتاب السعودي بحالة ازدهار. ذلك ما دعا بعض مسؤولي دور النشر يصرح بالمجالس - بشكل غير إعلامي - أمنيته أن تستمر حملة المقاطعة التي لا تقدر بثمن في جذب الجمهور والمشترين.
ورغم أن الأوضاع صارت طبيعية ومنضبطة في معرض الكتاب منذ بضعة سنوات، إلا أن التأثير الإعلاني لدعاة المقاطعة آنذاك لا يزال به بقية لأنه قام بدور دعائي مذهل وقوي لإغراء الجمهور بالحضور، فصارت عادة اجتماعية (ربما مؤقتة) في وقت تعاني منه المكتبات من عزوف الجمهور، وتحاول جذبه بشتى الطرق وبأصناف الإغراءات..
عالمياً فإن القراءة عموماً تزيد لكن القراء يتوجهون إلى الإنترنت أما قراءة الكتاب الورقي فتقل تدريجياً. الكتب موجودة في الإنترنت، وكل ما تقدمه يجدده الإنترنت لحظة بلحظة.. الإنترنت بين يديك بكتابة وصوت وصورة: مجاني، أسرع، أسهل، ويمكنك المشاركة متى شئت.. وحتى إذا رغبت في شراء كتاب ورقي فبالتسوق الإلكتروني يمكن للبريد أن يحضره لك في منزلك.. فيا صديقي: لماذا أذهب وأزاحم الناس في المعرض، إلا إذا كان للترفيه الاجتماعي أو مشاركة ثقافية..