بتوجيه من صاحب السمو الملكي الأمير خالد بن فيصل بن عبد العزيز آل سعود، مستشار خادم الحرمين الشريفين، أمير منطقة مكة المكرمة بإزالة أربعة مواقع في منطقة بني سعد جنوب الطائف بمحافظة ميسان منها: (الشجر والحجر) والتي ظهرت في الأيام الماضية في بعض المقاطع المرئية، يمارس فيها بعض الناس شركيات وبدع بالتمسح بأشجارها وأحجارها.. طلباً للخير ودفعاً للشر بحسب ما زُيّن لهم في اعتقادهم وهم بعض المعتمرين من جنسيات مختلفة والقادمين حديثاً إلى الأراضي المقدّسة حيث إن هذه المنطقة هي المنطقة التي نشأ فيها النبي محمد صلى الله عليه وسلم في صغره وطفولته لما أرضعته حليمة بنت أبي ذويب السعدية فيها.
فلما بلغ المقطع أمير منطقة مكة المكرمة وجّه بقطع الأشجار وإزالة الأحجار قطعاً لوسيلة الشرك وذريعته وحماية لجناب توحيد الله تعالى رب وخالق العبيد الذي خلق الخلق جميعاً لعبادته وطاعته ودعائه وطلب البركة منه، ونصرة منه للعقيدة الصحيحة وتأسياً بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي حمى جناب التوحيد وسدّ كل طريق حسي أو معنوي يؤدي إلى الإشراك بالله تعالى، وفي صحيح السنة أحاديث كثيرة قولية وعملية في ذلك، وهو الذي سار عليه الصحابة الكرام من بعد نبينا عليه الصلاة والسلام، وسار على منهاجهم من اتبعهم بإحسان من حكام وعلماء المسلمين في العصور المختلفة.
وقد تم قبل أيام دك تلك المواقع وإزالة كل ما يتم التبرك والتمسح به.. وجاء القرار الموفق الذي فيه حماية لجناب التوحيد وسد لطريق الشرك والابتداع بعد تداول مقطع التمسح في وسائل التواصل الاجتماعي، ليعقبه مقاطع الإزالة التي أسعدت وأبهجت قلوب الموحدين، و(الشيء من معدنه لا يستغرب) جزاهم الله خيرا وضاعف لهم المثوبة وزادهم من التوفيق .
وإن ما فعله صاحب السمو الملكي أمير منطقة مكة المكرمة في هذا الموقف السديد هو ما سار عليه جميع ملوك المملكة العربية السعودية - رحمهم الله تعالى - منذ قيام الدولة السعودية الأولى لما اجتمع العلم والسيف في اجتماع الأمير محمد بن سعود والشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمهما الله تعالى - وما قاما به من إزالة مظاهر الشرك والخرافة، وحتى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز حفظه الله.
وما فعله سمو أمير مكة المكرمة هو ما كان عليه جدُّه الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود -رحمه الله- مؤسس الدولة السعودية الثالثة الذي كان يرسل العلماء ليبينوا للناس تحريم البناء على القبور، وأن البناء على القبور وسيلة للوقوع في عبادة الموتى المقبورين، ودعائهم من دون الله تعالى، وما فعله هو الذي أمر به النبي عليه الصلاة والسلام، وهو ما بينه علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- لما قال لأبي الهياج الأسدي: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته) رواه مسلم، وهو ما قرره الأئمة الأعلام كالأئمة الأربعة أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد ومن نحا نحوهم من علماء هذه الأمة العاملين -رحمهم الله-، وهو المقرر لدى المحققين في المذهب المالكي، وهو المذهب المنتشر في بلدنا السودان والبلاد المجاورة، قال العلامة القرطبي المفسر الفقيه الأصولي المالكي رحمه الله: (وذهب الجمهور إلى أن هذا الارتفاع المأمور بإزالته هو ما زاد على التسنيم ويبقى للقبر ما يعرف به ويحترم، وأما تعلية البناء الكثير على ما كانت الجاهلية تفعله تفخيماً وتعظيماً فذلك يهدم ويزال، فإن فيه استعمال زينة الدنيا في أول منازل الآخرة، وتشبهاً بما كان يعظم القبور ويعبدها، وباعتبار هذه المعاني وظاهر النهي ينبغي أن يقال هو حرام، والتسنيم في القبر ارتفاعه قدر شبر، مأخوذ من سنام البعير).
ومما يؤكد سلوك الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن - رحمه الله - لهذا المنهج الموفق في إرسال العلماء لإقامة الحجة ومناقشة القائمين على أمر الأضرحة والقباب قبل هدمها هذه الرسالة: (من عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل فيصل إلى جناب الأخ المكرم الأفخم الشيخ عبدالله بن سليمان آل بليهد - سلمه الله تعالى - السلام عليكم ورحمة الله وبركاته على الدوام مع السؤال عن حالكم لا زلتم بخير وسرور، أحوالنا من كرم الله جميلة، خطك المكرم الذي صحبه الأخ حَمَد وَصَل، وجميع ما عرفت كان معلوم، خصوصاً جمعكم العلماء والمدرسين واستفتاءكم منهم، ومناظرتكم معهم، وجوابهم لكم الجميع ...) إلى أن قال: (أمس جانا تَيْل من إبراهيم السالم مضمونه أنكم باشرتم العمل بهدم القباب، وأن العمل جاري في ذلك لابد - إن شاء الله - تم العمل ولا بقيتو شيء، والإفادة قادمة منكم لنا بذلك، الله تعالى يجعل أعمالنا وأعمالكم خالصة لوجهه الكريم، ويوفقنا وإياكم لما يحبه الله ويرضاه هذا ما لزم تعريفه والله يحفظكم محروسين، والسلام) (المصدر: وثائق عصر الملك عبدالعزيز المحفوظة في دارة الملك عبدالعزيز دارسة تحليلية، د. خولة بنت محمد بن سعد الشويعر ص249)
ومن أقوال المؤسس الملك عبد العزيز التي تبين عنايته بشعيرة - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - قوله: (وإني آمر جميع أمرائي من الحاضرة والبادية، وكذلك من منا له معرفة في دين الله، ويرجو ثواب الله أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، ويحضوا الناس على طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يقوموا بذلك ظاهراً وباطناً، على العسر واليسر، ولا نأخذ في ترك ذلك عذراً عند الله - سبحانه وتعالى - ثم عندي وعند المسلمين) (المصدر : مختارات من الخطب الملكية، دارة الملك عبدالعزيز، (1/ 128 - 129)).
ومن أقوال الملك عبد العزيز - رحمه الله - الذي يؤكد العناية بأمر العقيدة والتوحيد وبيان إجماع الأئمة عليه قوله: (إن بعضكم يلتبس عليه الأمر في بعض أئمة المسلمين ومعتقداتهم، ويخص أحداً دون أحد بالتفضيل، فأحببتُ أن أشرح أمر الاعتقاد الذي ذكره المشايخ في خطبهم، وهو ذكرهم أن معتقد المسلمين واحد - حضرياً وبدوياً - تعرفون أن أصل المعتقد كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ثم السلف الصالح من بعدهم، ثم من بعدهم أئمة المسلمين الأربعة: الإمام مالك، والإمام الشافعي، والإمام أحمد والإمام أبو حنيفة، هؤلاء اعتقادهم واحد في الأصل، وهو أنواع التوحيد الثلاثة : توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، وتقرير ذلك في كتب العلماء الذين تراجعونهم - بحمد الله - كل ساعة، فهم في هذا الأصل واحد، وقد يكون بينهم اختلاف في الفروع، كلهم على حـق - إن شاء الله - ومن حذا حذوهم إلى يوم القيامة، ونحن - أهل نجد كافة - أخذنا بمذهب الإمام أحمد بن حنبل في الفروع، وإلا في الأصل نحن والمذكورون أعلاه على ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم....) (المصدر: احتساب الملك عبد العزيز رسالة دكتوراه قدّمت بجامعة أم درمان الإسلامية بالسودان للباحث: الدكتور عبد الرحمن بن حسين الفيفي ص352).
أقول : بعد شكر الله تعالى فإن الشكر الجزيل لصاحب السمو الملكي أمير منطقة مكة المكرمة لهذا التوجيه الكريم، وإن مما يستفاد من هذا الموقف الموفّق المسدّد: تذكير حكام الدول وقادتها بالعناية بأمر العقيدة والتوحيد والتأسي بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم في ذلك وتوجيه وسائل الإعلام لتؤدي دورها المنوط بها في حفظ ثوابت الدين ومحكمات الشريعة ورعايتها الحق الأعظم والأول والأكبر الذي خلق الله لأجله الخليقة وهو عبادته وطاعته وحده وعدم الإشراك به بنبي أو ملَك أو ولي أو شجر أو حجر أو غيرها من مخلوقات الله، ومما يستفاد من الموقف أن الله تعالى يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن الكريم، فليسخّر كل صاحب سلطان سلطانه في نصرة الحق وقمع ودمغ الباطل وهي مسؤولية عظيمة وواجب كبير يسأل عنه أمام الله جل وعلا في يوم تشخص فيه الأبصار وتتساوى فيك الملوك والجنود، ومما يستفاد من الموقف أهمية العناية بالعقيدة الصحيحة في التعليم والتدريس والوعظ والإرشاد والتوجيه، وأداء الحق العظيم بقيام العلماء والدعاة وأئمة المساجد وخطبائها والمدرسين بواجبهم الكبير في تبصير الناس بالحق والخير والمعروف، ودلالتهم عليه وحثهم على التمسك به، وتحذيرهم من الباطل والشر والمنكر بأنواعه وكشفه لهم بالأدلة الشرعية وبالحجج الواضحة القوية، بالحكمة والموعظة الحسنة وبمنهج الوسطية والاعتدال دون إفراط أو تفريط أو غلو أو جفاء.. والموفّق من وفّقه الله.
** **
- عضو هيئة التدريس بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة أم القرى