كتب: إبراهيم السمحان:
ماذا عساي أن أقول عن صديق، كان يكبرني بما لا يقل عن أربعين سنة، ومع ذلك فلم أكن لأشعر بأن ثمة ما يحول دون فهمي له أوفهمه لي، على النحو الذي أجده عند أترابي من الشعراء، أو ممن هم يكبرونني قليلاً، فقد كان يحيا وكأنه توقف عند سن العشرين. كان يتنقل ما بين السنين بروح شاب متوثب وعقل فيلسوف مجرب، وبخفة ورشاقة وحلم. كان يحلم دوما، ولذلك ظل متيقظاً على الدوام، شغوفاً بالحياة متمسكاً بها، وإلى آخر لحظة. كيف خلق تجربته الخاصة به، المتماسة مع كل شيء، المتفاعلة معه، كيف ضبط إيقاعها على هذا النحو العجيب؟ فهو المسافر دائماً، واقعاً وفكراً وحساً، الملتصق بطين الأرض وناسها، المتطاير كرذاذ، المتجذر كنبتة، الممسك بتلابيب الماضي، الأفق الواسع الرحيب، لكل ماهو جديد ومفيد ومغاير. أمضى شطراً من عمره في إمارات الخليج قبل توحيدها، فتنفس هواء البحر وانهمك في حياة الغربة وتنوعها، قرأ سطورها، حرفاً حرفاً، ولأنه هو بوعيه وجماله فقد حول معاناته إلى معزوفة فريدة آسرة، ظلت تنمو بداخله وتكبر وتزهر، لتكمن، بعد ذلك، كومضة أو كسحر، يتبدى، كلما استرسل في حكاياه وشرع يلملم تفاصيلها الدقيقة، وبمهارة واقتدار، تحببانك في الغربة وتضيفان إليها بريقاً لاينطفئ. إنه الشاعر الباحث الراوي وصاحب كتاب من شعراء بريدة الشعبيين/ سليمان بن محمد النقيدان، صحب والده محمد النقيدان، الملقب بـ(الأديب) في جلساته التي كان يعقدها في مجالس ودواوين بريدة، راوياً للشعر وسارداً للقصص، ما انعكس أثره جلياً على شاعرنا، فهو يتحدث بثقة وإثارة وخبرة متناهية، تسير فيها الرواية بالشكل والطريق الذي يريده لها، إضافة إلى ذلك فهو شخصية اجتماعية من الطراز النادر، ومع ذلك فهو يعتز برأيه ويصرح به ولا ينساق للآخر، إن ما قدمه هذا الرجل للمكتبة الشعبية، يعد ولا شك، إضافة مهمة تستحق التقدير، فما أكثر ما كان يقص علي بعض معاناته في سبيل توثيق بعض المرويات الشعرية والقصص المرتبطة بها من كبار السن شفهياً، وكيف أنه كان يسافر المسافات الطويلة ليوثق بيتاً هنا أو جملة هناك، وقد يظفر بالشخصية المرادة، أو يجده قد توفاه الله.
شيء آخر كان يتميز به النقيدان وهو أنه حين يتكلم عن الشعراء لا يتكلم عنهم كتاريخ، كان يهتم بالجغرافياء أيضاً وتأثيرها عليهم ويستنطق نبض المجتمع فيها، وكان يعتقد أن مصطلح الشعر لا يكمن في القصيدة فقط, وإنما في كل ما يشعرك ويصنع فيك الدهشة، ولذلك استحق أن يكون في تصوري أيقونة الفن الشامل، فمن الشعر الذي برع فيه إلى التصوير الفوتوغرافي الذي جسد ورصد من خلاله أهم التحولات الشكلية التي عاشتها مدينة بريدة، إلى الكتابة عن مستحثات ومثيرات الإبداع: الحارة ونبضها، وغير ذلك مما هو بمثابة الجسور التي تربط بين الحياة العادية وحياة الإبداع، والتي كانت تزخر بها حياة ونتاج هذا الرجل، إلى حواراته الأدبية التي أثرت العديد من جوانب تراثنا الشعبي، ودائماً ما تجد لديه الأجوبة الشافية لكل الأسئلة التي يطرحها الواقع ومستجداته. التقيته لأول مرة في جمعية الثقافة والفنون بالقصيم، وظل يتقد في داخلي, دون توقف، ووجدتني انجذب إليه شيئاً فشيئاً وتتحول علاقتنا إلى صداقة راسخة. كل ما أنا بصدده الآن هو الإقرار بأن هذا الرجل لم يكن شخصية عادية، تمر في الحياة مرور الكرام، ولو تركت لنفسي الانسياق وراء مشاعري لكتبت عنه ولم أتوقف، فهو المعين الغزير والنبع الثر الذي لا ينضب، والأب الروحي لي وللكثير من شعراء وكتاب الأدب الشعبي في بريدة، في فترة الثمانينيات والتسعينيات الميلادية، وقبل ذلك وبعده فهو واسع الأفق والصدر، مستعداً للإختلاف، مرحباً به.. فنان في كل شيء. ولذلك كان كذلك.
- الوداع
فكما كانت حياته سفراً متواصلاً في كل شيء، إثارة في كل شيء، كان لسفرته الأخيرة موعد مع السفر، مع الموت، مع الإثارة الأبدية، ليأتي هذا النص الذي كتبته فيه, وبحبر القلب, وكأنه إحدى هباته الناطقة، ليقول: أنت لم تمت، أنت حي بالفكر والحب الذي زرعتهما فينا، فليرحمك الله أبا أحمد:
(نهر الإحساس)
تزاحموا حول النعش واسرعوا بك
صلوا عليك وداخل القبر حطوك
سالت عليك قلوب ناس حظوا بك
وتلفتوا لك يوم قفوا ونادوك
وين انت ياسليمان حنت دروبك
لخطاك، واصبح عقبك الدرب مربوك
فاحت من صدور المجالس طيوبك
ياقاطفٍ ورد المحبة من الشوك
جمعت شمل اهل الشعر وازدهوا بك
وفوا معك لكن من حسابك أوفوك
العلم مهرة واجتذبها ركوبك
فقت الجموع وصفق الوقت مبروك
كم تختلف مايوم دنست ثوبك
تنقى لخصمك طيب الرد مسبوك
من للسوالف لانسجها سلوبك
يا عنبر في نهر الإحساس مسفوك
من للمشاعر يوم قفى هبوبك
يطوي بساطٍ بابيض الورد محبوك
غير السلام وذكريات عذوبك
تمطر بها. لادك بالقلب داكوك