إن مفهوم التقاطعات الثقافية وتبادل المواقع في الخطاب وما وراء ذلك من ضروب التوافق والاختلاف من أبعد المفاهيم النظرية تأثيرًا في مجال الدراسة الأدبية أيامنا هذه، وفي حقول الدراسة الفنية عمومًا، أو بالأحرى في مجال قراءة التشاكل المعرفي والتراسل الثقافي في الإبداع اللغوي وغير اللغوي. ويبدو لنا أن لكل لون من ألوان الإبداع الأدبي أو جنس من أجناسه ما يناسبه من هذه التقاطعات المعرفية. وهذه التقاطعات يزداد نفوذها المعنوي بتسارع تمدّن الريف وبتدهور صلة الإنسان بالطبيعة وبالبيئة الطبيعية الحية كما يرى المفكر الفرنسي ميشيل سير في عامة مؤلفاته وخاصة كتابه الأخير «من قبلُ كان الأمر أفضل». وهو ما يتجه بالإنسان في هذا العصر إلى إعادة تشكيل مفهوم الفضاء في تاريخ البشر. وهذه التقاطعات الثقافية تظهر في نظرة الإنسان المتمدّن إلى أبعاد المكان وإلى الفضاء عمومًا، وتفاعله معه تفاعلاً يبتعد به شيئاً فشيئاً عن التواصل الطبيعي، وعن إدراك العوالم الطبيعية من كائنات نباتية وحيوانية ومن تضاريس ومناخات، ويظهر في تحول موقع الذات من الفضاء وفي نظرتها إلى المكان جرّاء تغيّر نوع المكان الذي يعيش فيه الإنسان، ولكن هذا التغير أدى من جهة أخرى إلى اتساع لافت للانتباه في أفق رؤية الإنسان للأبعاد الفضائية، ولتطور حركته في المكان بفضل وسائل النقل التي غيّرت مفاهيم ثقافية كثيرة مثل مفهوم الرحلة، وصلة الإنسان بمقرّ عمله ومقرّ سكناه، وسرعة إنجاز الأعمال في الأمكنة المتباعدة، حتى غدت الفضاءات المتنقّلة كالقطار أو الطائرة إطارًا لكتابة الحكاية ولتصور الأمكنة الاجتماعية الجديدة ولوصف تبدّل المشاهد الطبيعية وما يمكن أن تبوح به من رموز (ينظر في الفصل الثالث عشر من روايتي أم الحسن والفصل الثاني عشر من روايتي العلجية). وقد أثمر هذا التحول الثقافي في عالمنا العربي ازدهارًا في مجالات تعبيرية كثيرة منها أدب الرحلات ومنها الجنس الروائي على اختلاف أنواعه، ويمكن أن تعيدنا تقاطعاته الثقافية إلى حوارية ميخائيل باختين ومفهوم تعدد القيم والأصوات الثقافية والكلمة الغيرية في نسيج الرواية، وإلى مفاهيم النقد الاجتماعي أو البنيوية التكوينية، أو ربما تعيدنا إلى تقاطع العالم الروائي مع ثقافة العجائبي، فضلاً عمَّا يحفل به المتن الروائي من تقاطع أيديولوجي. أما الأجناس الشعرية فيمكن أن تعيدنا إلى المذاهب الشعرية التي أنتجت مدارس الشعرالحديث ومنها الرومانسية التي يتقاطع فيها الخطاب الطبي وعلم الأحياء والباطن، وثقافة الأسطوري وسرود البدايات والعود.
ومن آفاق البحث في التقاطع الثقافي ما ينفتح على ما سميته في أبحاث سابقة بالجغرافيا الشعرية أو بجغرافيا البويطيقا. وهو لون من التقاطع تستفيد فيه القراءة الأدبية من أدبيات شعرية الفضاء. وهذه الجغرافيا إذا حاكينا علوم الجغرافيا العلمية المعروفة نراها ثلاثة حقول متقاطعة: أولاً الجغرافيا الطبيعية أو جغرافيا التضاريس والمناخ والنبات، وعليه نقيس الجغرافيا الشعرية الطبيعية، وقد اهتم بها النقد القديم في معاني الشعر المتصلة بوصف الطبيعة وبمواقع النجوم ومنازلها والأمطار والرياح وما يسمّى بعلم الأنواء، وما نجده أحياناً من وصف للغطاء النباتي في وصف الصحراء والافتخار بالسرعة والعدو في شعر الغنائية البدوية أو في وصف مشهد الصيد وانتقال الطريدة بين الأعشاب والأماكن الوعرة. والثانية هي الجغرافيا المجالية وتهتم بالتنظيم العمراني للمدينة والتخطيط الحضري ونظام السكن والمسالك ووسائل النقل والأسواق والمباني، والفضاءات العامة والخاصة، وعليها نقيس الجغرافيا السردية في الحكاية بمدلولها العام أي المحتوى الخبري لكل جنس سردي، وهذه الجغرافيا هي ما نسميه عادة الفضاء المكاني (البيت- الساحة - المحطة- المدينة - الفضاءات الحدودية والشعرية- المكان والحركة...). وثالث الأنواع هي الجغرافيا الاجتماعية وتهتم بالسكان والنمو الديمغرافي وسياسة الاقتصاد الحضري والمحاصيل والمؤسسات التجارية والتسويق والإشهار والحياة الاجتماعية والهجرة والنزوح والحركة السكانية، وما يسمى أيضًا الجغرافيا الإنسانية، وقد تقاطعت منذ سبعينات القرن الميلادي الماضي مع لون جديد من ألوان الاهتمام بالجانب العصبي والبيولوجي وبفلسفة العيش والسلوك في فضاء المدينة، وتبلورت في أعمال من قبيل كتاب الإنسان في المدينة للباحث في العمران الثقافي لهنري لابوري (Henri.Laborit) الصادر عام 1971، وقد ذكر هذا الباحث نفسه أن هذا اللون من الجغرافيا التي تهتم بصلة الجانب البيولوجي والعصبي من الإنسان بموقعه من المجموعات والعلاقات التي يعيش معها وبها هو لون من ألوان الكتابة الشعرية سماها «بويطيقا الجغراف يا». وهي جغرافيا علمية في أدواتها ومفاهيمها لكنها تتقاطع والفنون السمعية البصرية لأنها تنفتح على فنون التخطيط للمعمار المديني، ولفنون العمارة والحدائق والساحات العامة، وتمدّ كتّاب السيناريوهات بالمعارف المجالية التي يؤثّثون بها المشاهد الفرجوية وينسجون منها حكة الكتابة ونسيج الدراما، في السينما الموضوعات ذاتها المتصلة بالمشهدية وبالفضاءات المدينية كأفلام المطاردة البوليسية، وأفلام الخيال العلمي. ونقيس على هذا النوع الجغرافي الجغرافيا الشعرية، ومنها مثلاً موضوعات الاغتراب في الشعر الحديث وشعرية المدينة، وموضوعات الواقع الاجتماعي والهجرة والنزوح في الرواية العربية. وهذه الأنواع الثلاثة تقابل في وظائفها وظائفَ الجغرافيا العلمية الثلاث تمام المقابلة لأنها لا تسعى إلى تنظيم العالم وتثبيت الحدود وترسيخها بل تعمل على أن تتجاوز بالكلمة الشعرية تخوم التقسيم الجغرافي، وتصنع من المجاز ومن العوالم الاستعارية ما لا تقبله المفاهيم الجغرافية الحقيقية. وإذا كان كاتب مثل قسطنطين جيورجيو يحاول خرق النظام الزمني في موقف مهيب من التاريخ فيجعل لليوم ساعة زائدة عن ساعاته الأربع والعشرين باصطناع دائرة زمنية كثيفة فيها خمس وعشرون ساعة فإن عنوان «عالم بلا خرائط» لرواية عبد الرحمن منيف وجبرا إبراهيم جبرا عتبة روائية تسعى إلى تجاوز ثقافة الجغرافيا القائمة على التقسيم والتحديد المجالي بمفهوم الخريطة، وتنشد عالماً يتجاوز الحدود الموهومة في رؤية الكاتبين والتي تصطنعها الجغرافيا.
والواقع أن موضوع التقاطعات الثقافية في الفضاء بوجه عام يفتّح شهية الكتّاب وفلاسفة الجمال منذ عقود، سواء في إلماعات هيديجر التي ضمّنها كتابه الكينونة والزمن أو ما جاء في كتاب شعرية الفضاء للفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار، حيث تتضح فكرة البحث عن ذاتية الذات وعن الذات المكانية في الفضاء المكاني والزماني. ونماذج أخرى من الأعمال التي اهتمت بالفضاء المديني مثل كتاب شعرية المدينة لبيار صانسو (Pierre Sansot) الصادر بالفرنسية عام 2004، وهو مصنّف إبداعي يتناول بالتفكيك ما يعرف بجسد المدينة، وإيقاع الحياة في أماكنها ويصفها تحت المطر، ويرسم الجولة الصباحية بين شوارعها ورموزها ومعالمها، ويطلق عليها اسم الجغرافيا العاطفية. ونذكر كذلك شعرية الأماكن وهو مؤلف جماعي على غاية من الأهمية نسّقت أعماله باسكال أوري جونشيار (Pascale.AuraixJonchière/Alain Montandon) وآلان مونتندان وصدر أيضًا عام 2004، ومن أهم الأفكار التي عمّق النظر فيها ما يتصل باللامكان الذي يحدثه الإبداع بين الأمكنة على نحو ما ذكرناه في تسمية عالم بلاخرائط (ما يشبه فضاء الترانزيت). وأخيرًا نلمع إلى ذلك التحليل المعمّق للتقاطعات الثقافية والفضاء في بحث بياتريس بونوم (Béatrice.Bonhomme)، وفيه عرض مستفيض لتقاطع المكان والمرجع والمكان والجسد والمكان والصورة والمكان المسرحي والسينمائي والمكان والصحيفة والمكان والأصوات، وهو بحث صدر بمجلة نويس الفلسفية (Noeis) بجامعة نيس صوفيا. إن إدراك المكان موضوع أفقي تتقاطع فيه الثقافات والجماليات المختلفة، ويخترق عامة الأفكار الفلسفية والأدبية، وتتنازعه الأبحاث الإنشائية والظاهرتية والتفكيكية (من المكان ذي المعنى الذاتي إلى المكان ذي المعنى الموضوعي). وإذا كان المجال الروائي والسردي عمومًا يستأثر بأهم الدراسات في هذا الباب فإن المهتمين بالشعرية لم يغفلوا عنه، سواء في أعمال موريش بلانشو (Maurice.Blanchot) أو جورج بولي (Georges.Poulet) أو في قراءات جديدة لبروست (Marcel.Proust) عند جورج بيريس (G.Perec). وقد كان من نتائج هذا التقاطع بين الروافد الثقافية أن نشأت في الآداب الحديثة شعرية جديدة اصطلح على تسميتها شعرية الشارع وهي من ثقافة إدراك المكان الذي تتقاطع يه الأصوات والرموز في الآداب العالمية، وأسهم هذا الإدراك في تقويض الرؤية القديمة، وفي استبدالها بمفاهيم أنتروبولوجية ورمزية في غاية الثاء. لقد أصبح الشارع أولاً فضاء لبناء مسالك الفكر المتنوع، ولنسج ممكنات العبور بين الأمكنة، وهو يمثل بالنسبة إلى حركة الفكر والجسد إمكانات لامتداداته الجغرافية المجالية أو الطوبوغرافية المتنوعة والتي لا نجدها في القرية وفي الريف. وأصبح للشارع في نماذج من الإبداع الروائي بعد من أبعاد الهوية الثقافية، وكان للصحافة المكتوبة والمسموعة دور في إنجاز هذا التحول الدلالي في تاريخ العبارة، فأصبح الشارع يعني الحياة العامة مطلقًا ويحتوي على دلالة نبض المجتمع، ودفق الحركة والتنوع الاجتماعي، بل صار أيضًا يعني تعدد الأصوات الثقافية. واستعادت العبارة نشاط دلالتها الأولى في اللغة وهي الفضاء المنفتح أو الطريق الذي يُشَقّ ليمرّ منه الناس، واستعملت العبارة في مجاز عقلي، وضمن كوكبة من المعاجم المستعارة من الجغرافيا الشعرية الحديثة فصار الخطاب أن تعمل مفاهيم من قبيل: نبض الشارع، وما يقوله الشارع، وصارت الكلمة عنوانًا لبعض الصحف وتستعمل لوسم لون من التحقيقات تسمى الميكرو رصيف أو الميكرو تروتوار (Micro trottoir)، وهو مكوّن من مكوّنات الريبورتاج الصحفي، ربما كان يحمل دلالة أشدّ هجنة من دلالة الشارع. لقد غذّت الثقافة المدنية الحديثة عبارة الشارع بدلالات تنافس أحيانًا دلالات الفضاءات المغلقة، وصار الشارع الفضاء الحاضن لكلّ الفضاءات العمومية المتفرّعة عنه مثل المدرسة والمؤسسة والمصنع والمكتبة. وساعد تطور مفهوم الترفيه وممارسة الحياة الاقتصادية والتجارية والثقافية في الأمكنة العامة على اتساع دلالة الشارع الذي تعاضده الحديقة العامة، والملاهي في الساحات العامة والسيرك والسينما والمسارح والمطارات والمحطات وظاهرة التسوق والاتصال بالباعة المتجولين والدخول إلى الأسواق البلدية، وتحوّلت المتاجر الكبرى والصغرى على السواء إلى فضاءات فرجة. صار الشارع أهم فضاء لتعدد الأصوات نظرًا إلى ما نعيشه من اتساع في مجال التقاطعات الثقافية، وصار الشارع كذلك نظامًا من العلامات يشترك في صياغتها المهندس المعماري والتاجر والبلدية، ومصالح المرور والإدارات المتدخلة في الفضاء العام، علامات يمكن قراءتها في كلّ مدينة من المدن وفق ما توفّره مفاتيح القراءة الحديثة وأدواتها من مداخل سيميائية وثقافية مناسبة لكلّ فضاء من هذه الفضاءات ولأنظمته العلامية.
- أ.د. صالح بن الهادي بن رمضان
***
للتواصل مع (باحثون)
bahithoun@gmail.com